عندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها عام 1945، كان واضحا أن النظام الدولي التعددي أو "متعدد الأقطاب" صار آيلا إلى السقوط. نزلت اليابان وألمانيا وإيطاليا من قمته، وأُنهكت بريطانيا وفرنسا. ولم يبق من القوى الكبرى في ذلك النظام سوى الاتحاد السوفياتي السابق الذي أسهم بدور معتبر في انتصار دول التحالف، وحافظ على قدر كبير من قدراته رغم الخسائر الكبيرة. وأخذت الولايات المتحدة في التحول إلى قوة دولية، بعد أن اختارت أن تبقى لفترة طويلة أقل انخراطا في شؤون العالم.
ولهذا أصبح الفرق بين كل من موسكو وواشنطن وغيرهما من القوى الكبرى كبيرا، كما تبين في التفاعلات التي أدت إلى استبدال الأمم المتحدة بعصبة الأمم، وظهر بشكل أوضح بُعيد حرب السويس عام 1956. وأخذ العالم يتعامل مع موسكو وواشنطن بوصفهما القوتين الكبريين، أو العظميين، ومع النظام الدولي باعتباره ثنائيا، أو يقوم على "القطبية الثنائية".
لا يجوز، منهجيا، القياس على ما حصل منذ ما بين 7 و8 عقود حدثت فيها تحولات هائلة في كل شيء تقريبا، من مُحدِدات قوة الدولة وطبيعة التفاعلات بين الدول إلى أنماط حياة البشر. غير أنه بعيدا عن القياس، ربما يجوز استلهام ما حدث في الحرب العالمية الثانية عند محاولة تصور الآثار التي يمكن أن تنتج عن حربي أوكرانيا وغزة على المستوى الكلي المتعلق بهيكل النظام الدولي.
المُكون الثقافي في الصراع على مستقبل النظام الدولي يزداد أكثر من أي وقت مضى
وفي كل الأحوال، سواء أفاد هذا الاستلهام أم لم يفد، يبقى السؤال ضروريا عن إمكان أن تؤدي حربا غزة وأوكرانيا إلى تغيير في النظام الدولي الذي يتسم منذ أوائل التسعينات بسيولة غير مسبوقة. ولا يأتي السؤال من فراغ. فقد ازداد في العقد الأخير سعي الدول الرافضة أو المتحفظة على استمرار الولايات المتحدة، ومعها الغرب، في التعامل مع العالم على أساس أنها انتصرت في الحرب الباردة الدولية، على الرغم من وجود دول كبرى تنافسها بشكل متزايد مثل الصين، أو تتحداها بأشكال مختلفة مثل روسيا ودول أخرى، فضلا عن صعود دول كانت تُصنَّف متوسطة، وازدياد طموحها بمقدار تنامي قدراتها يوما بعد يوم.
وترغب هذه الدول، التي يوصف بعضها في أدبيات العلاقات الدولية بأنها مُراجِعة Revisionist، في إقناع واشنطن أو إرغامها على تغيير سياساتها المستندة على نتيجة الحرب الباردة، والاعتراف بالمتغيرات الآخذة في الازدياد على مدى ثلاثة عقود، ومن ثم تدشين نظام دولي تعددي مرة ثانية. وتحاول الولايات المتحدة، في المقابل، التصدي لهذا الاتجاه، وحشد ما تملكه من مصادر القوة الخشنة والناعمة في مواجهته.
اتهام الصين وروسيا
في غضون ذلك كان المُكون الثقافي في الصراع على مستقبل النظام الدولي يزداد أكثر من أي وقت مضى منذ أن عرف العالم هذا النظام في شكله الحديث مطلع القرن التاسع عشر بعد انتهاء الحروب النابليونية. تنطلق واشنطن في إدارة هذا الصراع من أنها تدافع عما تسميه "النظام الدولي المفتوح"، ويستخدم بعض الساسة الأميركيين عبارة "النظام الدولي الليبرالي".
ولهذا تضمنت استراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2019 اتهاما صريحا لكل من الصين وروسيا بأنهما تستغلان النظام الدولي المفتوح لتقويضه من داخله. وصار هذا المكون الثقافي أكثر وضوحا من أي وقت مضى بعد أن شنت روسيا الحرب على أوكرانيا في فبراير/شباط 2022؛ فقد فسرت واشنطن، ومعها حلفاؤها في أوروبا وكندا، اندفاعها لدعم أوكرانيا بأنها تسعى للمحافظة على قيم هذا النظام، والتصدي لمحاولة روسيا تقويضه بواسطة الحرب هذه المرة.
ولكن إصرار روسيا على المضي قدما مكَّنها من خلق أمر واقع جديد في شرق أوروبا، وهو ما مثَّل تحديا كبيرا للولايات المتحدة التي اضطرت إلى وضع سقف لمساعدة أوكرانيا من أجل تجنب توسع نطاق الحرب وتدويلها. ولم تستطع، وهي تحت هذا السقف، منع انتهاك قيم كانت مشتركة في العالم-على الأقل نظريا- من خلال ميثاق الأمم المتحدة ومواثيق ومعاهدات أخرى. ولهذا كانت حرب أوكرانيا بادرة تغير في معادلات الصراع على طبيعة النظام الدولي وهيكله.
تقوم واشنطن، وعن غير قصد، بدور لم يكن متصورا في تقويض نظام دولي لطالما تشبثت به
ولكن المهم، هنا، أنه في الوقت الذي ظلت واشنطن تحاول إحباط بادرة التغير هذه، فإذا بها تندفع بقوة لتكريسها وربما فتح الباب أمام تغيير أسرع، ليس في طبيعة الصراع على النظام الدولي وحسب، بل في هذا النظام نفسه؛ فالقيم الدولية التي تُنتهك في حرب غزة لا تقل في أهميتها عن تلك التي خرقتها روسيا في حرب أوكرانيا. تركز الخرق الروسي في مبادئ السيادة، والمساواة بين الدول واحترام حدودها الجغرافية. أما الانتهاك الأميركي في حرب غزة فيشمل حماية عمليات عسكرية تُحرق في نيرانها مواثيق ومعاهدات دولية عدة تتضمن أهم القيم التي يدافع عنها الغرب، من الميثاق العالمي لحقوق الإنسان إلى اتفاقية جنيف الأممية بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب، مرورا ببعض المواد الأساسية في ميثاق الأمم المتحدة، وغير ذلك مما كان هدفه حماية حق كل إنسان في الحياة، وعدم تكرار ويلات الحربين العالميتين.
تقوم واشنطن إذن، وعن غير قصد، بدور لم يكن متصورا في تقويض نظام دولي لطالما تشبثت به، عبر مساندة انتهاك قيم أساسية قامت عليها منظومته ويعتبرها الأميركيون الأكثر أهمية فيها. وهي تفعل ذلك بأكثر وأشد مما فعله دعاة تغيير هذا النظام، أو مراجعته، علما أن سلوك هؤلاء طبيعي في ضوء هدفهم، بخلاف سلوك الولايات المتحدة المتعارض مع هدفها.
ربما لا يكون تغيير كبير في النظام الدولي وشيكا، وهذا أمر مفهوم؛ فقد استغرق تدشين نظام دولي جديد بعد الحرب الثانية أكثر من عقد من الزمن. فهل يستغرق الانتقال إلى نظام جديد، والذي سيبدأ بعد انتهاء حربي غزة وأوكرنيا، مدفوعا بآثار "النيران الصديقة" الأميركية ضد النظام الراهن، عقدا من الزمن أو أكثر أيضا، أم أقول إذا أخذنا في الحسبان التغير الذي حدث في وحدة الزمن بعد ثمانية عقود؟ الأرجح أن يرتبط الوقت الذي سيستغرقه الانتقال إلى نظام جديد بمقدار قدرة واشنطن على تأجيل الاتجاه إليه بعد أن دعمت إطلاق النار على قيم أساسية تعتبرها من أهم أركان النظام الذي تتمسك به اليوم.