الردع الأميركي ضد إيران تضرر دون أن ينهارhttps://www.majalla.com/node/306061/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%8A%D8%B1%D9%83%D9%8A-%D8%B6%D8%AF-%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B6%D8%B1%D8%B1-%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%86-%D9%8A%D9%86%D9%87%D8%A7%D8%B1
تتزايد الدعوات في واشنطن للانتقام العنيف من إيران بالتزامن مع كل هجوم جديد تشنه الميليشيات المدعومة من إيران ضد المصالح الأميركية في المنطقة. ويزعم أتباع هذا النهج أن قوة الردع الأميركية تداعت، وأن إيران تفعل كل ما تريده في المنطقة دون أن تلقى عقابا.
لا تُصدق أيا من ذلك القول؛ ففي حين أن الردع الأميركي فشل من خلال قيامه بأعمال عنف منخفضة الحدة في الغالب في منع إيران من بسط نفوذها، فإن ذلك الردع بقي على المستوى الاستراتيجي، وهو الأمر الأكثر أهمية بالنسبة للمصالح الأميركية الأساسية في الشرق الأوسط.
لا شك أنه لا يمكن ترك شبكة وكلاء إيران في المنطقة تنمو دون حسيب أو رقيب. فهذه الميليشيات لا تشكل مصدر إزعاج فحسب (انظر إلى ما فعلته "حماس" توا ضد إسرائيل)، بل هي في منزلة مشكلة استراتيجية، وهي مشكلة تثير قلق شركاء أميركا الإقليميين إلى حد كبير. وقد لا يكون لدى أتباع إيران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان القدرة على إلحاق ضرر كبير بالمصالح الأميركية الأساسية في المنطقة، ومن ضمنها حرية التجارة والملاحة، لكنهم يهددون أمن شركائها الإقليميين.
ويجب على واشنطن أن تهتم بذلك لأنها بحاجة إلى هؤلاء الشركاء من أجل التصدي على نحو جماعي لشبكة التهديد هذه. ويجب عليها أن تلتزم أمنهم المادي من أجل تأمين قبولهم بذلك.
تفاقم حالة العين بالعين
إنها نغمة تُكررها إيران في كثير من الأحيان بنجاح كبير، لكنها تقوم بالقليل من المقاومة، فمن أجل تعزيز أجندتها التوسعية في الشرق الأوسط، تهاجم إيران المنشآت الأميركية والشركاء هناك على الأغلب بالوكالة. وترد واشنطن، على نحو متقطع، بضربات محدودة ضد هؤلاء الوكلاء، وأحيانا ضد أفراد إيرانيين.
اعتبر كثيرون في واشنطن رد الولايات المتحدة على أكثر من 76 هجوما إيرانيا شُنت منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي خجولا بعض الشيء، وغير كاف
دعنا نتأمل الأسابيع والأشهر القليلة الماضية. حيث استهدفت "كتائب حزب الله" وأعضاء آخرون في شبكة التهديد الإيرانية للقوات الأميركية في كل من العراق وسوريا بمسيرات وصواريخ، وهاجم الحوثيون ثلاث سفن تجارية، وأطلقوا صاروخين باليستيين على سفينة حربية أميركية كانت تبحر في خليج عدن. وشنوا هجمات بالمسيرات والصواريخ باتجاه جنوب إسرائيل.
وردت الولايات المتحدة بقتل حفنة من المقاتلين المدعومين من إيران وبضرب مستودعات الأسلحة، ومرافق التخزين، ومراكز العمليات التابعة للحرس الثوري الإسلامي في العراق وسوريا. كما أنها أسقطت مسيرات كان الحوثيون قد أطلقوها في البحر الأحمر.
ومع ذلك، اعتبر كثيرون في واشنطن رد الولايات المتحدة على أكثر من 76 هجوما إيرانيا شُنت منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول الماضي خجولا بعض الشيء، وغير كاف إلى حد ما.
ودعا السيناتور الجمهوري توم كوتون، وهو عضو في لجنتي القوات المسلحة والاستخبارات المؤثرتين، إلى "انتقام واسع النطاق" ضد إيران لاستعادة هيبة الردع الأميركي. ودعا زميلاه، السيناتور كيفين كريمر والسيناتور تيم سكوت، إلى اتخاذ إجراءات أميركية أكثر عدوانية، بما في ذلك "مهاجمة إيران، وليس مهاجمة المستودعات الموجودة في سوريا فحسب". وأعرب أيضا المسؤولون في وزارة الدفاع وكبار الضباط في الجيش الأميركي عن قلقهم بشأن الرد الأميركي الضعيف على هجمات الحوثيين التي حدثت في البحر الأحمر.
ويُدرك البيت الأبيض جيدا التهديد الذي تشكله إيران بالنسبة إلى القوات والمصالح الأميركية في المنطقة، لكنه أحجم عن اتخاذ إجراءات فعلية أكثر قوة. ربما أثارت سياسة ضبط النفس التي ينتهجها الرئيس جو بايدن الضجة، لكنه ليس الوحيد الذي انتهج هذه السياسة.
صندوق باندورا
لقد سعى كل الرؤساء الأميركيين منذ جيمي كارتر إلى تجنب الحرب مع إيران؛ إذ اعتقدوا جميعا، وهم محقون في ذلك تماما، أن المواجهة العسكرية بين الولايات المتحدة وإيران يمكن أن تفتح صندوق باندورا في الشرق الأوسط على مصراعيه، وتُطلق العنان لموجة من الإرهاب في جميع أنحاء المنطقة، وربما ضد الأراضي الأميركية.
إن فرض عقاب أشد على إيران بسبب سياساتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على القيام بتدخل عسكري مكلف وغير محدود الأمد في الشرق الأوسط. إن آخر أمر ترغب الولايات المتحدة في القيام به هو تكرار كارثتي كل من أفغانستان والعراق، ولا سيما في وقت تحولت فيه أولوياتها الجيوسياسية وأصبحت تُركز حاليا على المسارح في منطقة المحيط الهادئ الهندي والأوروبي. وعلاوة على ذلك، فإن الجيش الأميركي مرهق للغاية في الوقت الحاضر.
فرض عقاب أشد على إيران بسبب سياساتها الإقليمية المزعزعة للاستقرار من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة على القيام بتدخل عسكري مكلف وغير محدود الأمد في الشرق الأوسط
وعلى الرغم من أن كل هذه المخاوف مشروعة تماما، فهل يتصف إعراض واشنطن عن المخاطرة بالمبالغة، وهل أعاق ذلك الإعراض السياسة الأميركية فعليا وزود إيران بميزة استراتيجية في المنطقة طوال هذه السنين؟
تتطلب الإجابة المُتروية على هذا السؤال معرفة مصالح أميركا الأساسية في الشرق الأوسط، وتتطلب أيضا معرفة مصالح إيران، وعلى القدر نفسه من الأهمية معرفة الأمر الذي يهددها حقا.
لدى الولايات المتحدة مصلحة دائمة في الحفاظ على الاستقرار في الشرق الأوسط لأنه مليء بالموارد الطبيعية الاستراتيجية، ويعتبر موطنا لنقاط عبور مهمة في الشحن والتجارة العالمية. وتُخدم هذه المصلحة من خلال ضمان عدم قيام أي قوة خبيثة بفرض أفضلياتها على المنطقة، أو السيطرة على مواردها الغنية.
مساعي الهيمنة الإيرانية في مواجهة المصالح الاستراتيجية الأميركية
ومن ناحية أخرى، تسعى إيران إلى إقامة نظام إقليمي، سواء كان ذلك النظام مستقرا أم غير مستقر، يتوفر فيه الأمن لنظامها القمعي، وتتفشى فيه آيديولوجيتها المتطرفة، ويهيمن عليه موقفها الاستراتيجي.
لا شيء يتحدى سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أكثر من إيران. وفي الوقت نفسه، لا شيء يقف في طريق سعي إيران إلى الهيمنة الإقليمية أكثر من القوة العسكرية الأميركية الموجودة في المنطقة.
حاولت كل إدارة على مدى السنين الخمس والأربعين الماضية، ربما باستثناء فترة إدارة جورج دبليو بوش، بشكل أو بآخر التوصل إلى تسوية مؤقتة مع طهران، لكن القادة الإيرانيين كانوا يرفضون كل محاولة. ولكن عندما ناسبهم الأمر، توصلوا إلى اتفاقات الحد من التسلح مع واشنطن (على سبيل المثال الاتفاق النووي الذي أُبرم عام 2015). ولكن ليس لدى الإيرانيين مصلحة في التصالح مع أميركا لأنهم يعتقدون أن الأميركيين يُضعفون ويُعرقلون تطلعات الأمة الإيرانية. وتريد إيران إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وليس التعايش معها.
وعلى مر السنين، أبلت إيران بلاء حسنا في متابعة طموحاتها وبسط نفوذها في جميع أنحاء المنطقة؛ ففي اليمن، يسيطر الحوثيون على جزء كبير من الشمال وغيره من المراكز السكانية الكبيرة.
وفي العراق، تسيطر الميليشيات الشيعية على السياسة والموارد. وفي سوريا، يُعد نظام الأسد عميلا لإيران بالأساس. وفي لبنان وفلسطين، يتخذ "حزب الله" و"حماس"، على التوالي، القرار بشأن قضايا الحرب والسلام.
كما قامت إيران أيضا بعمليات إكراه وترهيب، وفي بعض الأحيان هاجمت شركاء الولايات المتحدة الرئيسين مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ووقع الهجوم الأكثر فظاعة في سبتمبر/أيلول 2019، عندما ضربت إيران على نحو مباشر البنية التحتية لقطاع الطاقة السعودي بسرب من المسيرات والصواريخ، وهو الأمر الذي أدى إلى شل أكبر منشأة لمعالجة النفط في العالم، والموجودة في المملكة العربية السعودية.
وتستغل إيران أيضا عدوانها لمحاولة دق إسفين بين واشنطن وشركائها، ونجحت في ذلك على بعض الأصعدة، إذ بسبب مخاوفهم بشأن استجابة واشنطن غير الفعالة على العدوان الإيراني وعدم التزامها بأمنهم، سعى السعوديون والإماراتيون إلى التصالح مع طهران في الآونة الأخيرة من خلال التوصل إلى اتفاقات تطبيع معها.
كما يعتبر سجل إيران في ممارسة العنف ضد القوات الأميركية ملحوظا أيضا. وكان أسوأها خلال عملية "حرية العراق"، عندما قتل الإيرانيون أكثر من 600 جندي أميركي في العراق. وفي الآونة الأخيرة، قتلت القوات الموالية لإيران متعاقدا أميركيا في سوريا وآخر في كركوك بعد هجمات بطائرات مسيرة وصواريخ على التوالي.
وعلى الرغم من نفي إيران وقوفها خلف هجمات "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول وتأكيد بايدن على عدم "وجود دليل" على ضلوع إيران في تلك الهجمات، إلا أن "حماس" تلقت أسلحة وتدريبا من إيران.
وبغض النظر عما إذا كانت إيران أذنت بالهجوم أم لا، إلا أنها نجحت في إفشال ما كان يمكن أن يكون حدثا تحوليا في الشرق الأوسط وهو اتفاق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بوساطة أميركية.
إذ إن خطط الرياض للتطبيع مع إسرائيل جمدت، على الأقل حتى انتهاء الصراع في غزة، الذي لا يبدو أنه سيحدث في المستقبل القريب.
قدرة الردع الأميركية لا تزال فعالة
على الرغم من هذه الإنجازات الملحوظة فإنها، في وضعها الحالي، لا تؤثر بشكل جاد على أي من المصالح الأساسية لواشنطن في الشرق الأوسط. دعونا نستعرضها واحده تلو الأخرى.
أولا، لم تحقق إيران تفوقا إقليميا. ثانيا، لم تتسبب إيران في حدوث انفصال بين واشنطن وأي من شركائها العرب. ثالثا، لم تهدد إيران بشكل كبير حرية التجارة والملاحة في المنطقة. رابعا، لم تجبر إيران الولايات المتحدة على مغادرة الشرق الأوسط.
يمكن أن تكون بعض الحكومات العربية معرضة للنفوذ الإيراني، ولكن حتى شعوبها، بما في ذلك أجزاء من مجتمعاتها الشيعية، لا تقبل الخضوع للنفوذ الإيراني
وعلى الرغم من كل القيود التي يفرضها الردع الأميركي، إلا أن له تأثيره البارز على كل هذه النتائج. وبالقدر نفسه، إن لم يكن أكثر أهمية، لعبت المقاومة المحلية في الشرق الأوسط لنموذج طهران القمعي والطائفي، بأشكاله المختلفة، دورا بارزا أيضا.
في الواقع، يمكن أن تكون بعض الحكومات العربية معرضة للنفوذ الإيراني، ولكن حتى شعوبها، بما في ذلك أجزاء من مجتمعاتها الشيعية، لا تقبل الخضوع للنفوذ الإيراني. سوف يتمرد البعض على هذا النفوذ بشكل سلمي، في حين أن البعض الآخر، مثل تنظيم داعش والجماعات المسلحة الأخرى، سيتمردون بواسطة العنف.
وعلى الرغم من كل النفوذ الذي تتمتع به إيران في كل من العراق ولبنان، على سبيل المثال، إلا أنها لا تستطيع فرض رغباتها على العراقيين أو اللبنانيين دون مواجهة ردود فعل محلية عنيفة؛ إذ لا ينبغي الخلط بين التأثير والسيطرة؛ فإيران تتمتع بقدر كبير من النفوذ ولكنها لا تتمتع بذات القدر من السيطرة. وحتى الولايات المتحدة، على الرغم من نفوذها الذي لا مثيل له في المنطقة، لا تسيطر على سياسات أو أفعال شركائها.
توازنات فعالة
وبعيدا عن العرب والولايات المتحدة، تظل إسرائيل- كأقوى قوة عسكرية في المنطقة- وتركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي والمعقل السني، قوتين إقليميتين قويتين مستمرتين في تحدي النفوذ والتداخلات الإيرانية والتنافس معها عبر وسائل الدبلوماسية (تركيا) والقوة العسكرية (إسرائيل). أي إن الهيمنة الإيرانية لن تلقى تساهلا من إسرائيل ولا من تركيا.
ورغم أن التوترات بين واشنطن وشركائها العرب حقيقية، إلا أنها ليست السمة الطاغية أو أمرا يمكن أن يؤدي إلى إنهاء العلاقة بين الطرفين. وعلى الرغم من كل المخاوف والشكاوى بشأن السياسة الأميركية من قبل الرياض وأبوظبي، على سبيل المثال، إلا أن كليهما يسعى إلى تحسين علاقاته مع الولايات المتحدة، وليس إلى قطعها.
وعلى الرغم من تقاربهم مع طهران مؤخرا، وهو تقارب تكتيكي بطبيعته لأنهم لا يثقون بقيادتها، فإنهم يريدون تعزيز علاقاتهم الدفاعية وتوقيع اتفاقات دفاع رسمية مع واشنطن. فهم لا يسعون للانفصال بل إلى تجديد الاتفاقات فيما بينهم.
لقد قامت إيران، ومؤخرا الحوثيون، بتقويض حرية التجارة والملاحة، ولكن التهديدات لم ترق إلى مستوى أزمة حقيقية وكبيرة. وحتى مع الهجوم الناجح في 19 سبتمبر/أيلول على منشآت "أرامكو" السعودية، لم تشهد أسعار النفط ارتفاعا إلا لفترة وجيزة.
قامت إيران، ومؤخرا الحوثيون، بتقويض حرية التجارة والملاحة، ولكن التهديدات لم ترق إلى مستوى أزمة حقيقية وكبيرة
ورغم أن إيران تطلق تهديدات بين الحين والآخر بشأن إغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره 21 في المئة من إجمالي النفط الخام العالمي، إلا أن هذه التهديدات تظل فارغة؛ حيث إن خطوة كهذه لن تؤثر فقط على الاقتصاد الإيراني، لأنها ستقوض مصالح إيران الخاصة وتضر بعلاقاتها مع شركاء اقتصاديين مهمين مثل الصين، ولكن تنفيذها سيكون صعبا للغاية وذلك بسبب الحجم الكبير لسفن الشحن الحديثة وصعوبة تعطيلها.
ورغم صعوبة إثبات ذلك دائما، فإن الردع الأميركي استطاع إحباط كل خطط الهيمنة الإيرانية. وليس هناك شك في أن الردع الأميركي تلقى ضربات متعددة على مر السنين، ولكن في الغالب على المستوى الأدنى، وليس المستوى الأعلى، حيث تكمن المصالح الأميركية الأساسية.
وفيما يتعلق بحرية التجارة والملاحة، على سبيل المثال- وهو مبدأ أساسي في سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط- يعرف الإيرانيون ويخشون أن يغرق الأسطول الخامس الأميركي قواتهم البحرية إذا قاموا بإغلاق المضيق. وهم يدركون أيضا أنه من الأفضل لهم أن لا يكرروا الخطأ الفادح الذي ارتكبه صدام حسين حين حاول غزو جيرانه، أو الإطاحة بالحكومات العربية الصديقة للولايات المتحدة، أو السيطرة على موارد الطاقة في المنطقة.
صحيح أن شهية أميركا لاستخدام القوة العسكرية في المنطقة انخفضت في السنوات الأخيرة، ولكن ذلك لا يشير بأي حال من الأحوال إلى أن واشنطن على وشك أن تشهد "لحظة شرق السويس" وتصدر تعليمات لقواتها بحزم حقائبهم والعودة إلى ديارهم.
سيظل الشرق الأوسط دائما مسرحا رئيسا لاستراتيجية الولايات المتحدة الكبرى، وتعتبر فكرة تخلي صناع القرار الأميركيين عنه لصالح الصين أو روسيا أو إيران أمرا لا يمكن تصوره أبدا.
من المؤسف بطبيعة الحال أن القوة العسكرية الأميركية، وليس الدبلوماسية الأميركية أو الاقتصاد الأميركي، هي التي تحمي مصالح الولايات المتحدة في المقام الأول وتحافظ على نفوذها، ولكن هذه حقيقة لا يستطيع المسؤولون الأميركيون أن يتجاهلوها. فإذا قاموا بتقليص هذا الوجود العسكري أو سحبه من المنطقة، فإن ذلك سيحطم النفوذ الأميركي في ذلك الجزء من العالم.
هواجس خطرة
يشدد منتقدو سياسة أميركا نحو إيران على هاجسين كبيرين اثنين: الأول أن إيران عازمة على تحقيق أهدافها بفرض هيمنتها الإقليمية وسيتكفل تقاعس الولايات المتحدة ولامبالاتها المتواصلان بنجاحها.
فأكثر ما يميز إيران برغماتيتها وصبرها. وإن لم تُردع فسوف تواصل ممارستها للإكراه والتحرش والاعتداء حتى تبلغ ما تريد. والإيرانيون على قناعة تامة بأن الوقت في صالحهم وأن الولايات المتحدة سوف تتعب في نهاية المطاف من تكتيكاتهم الخشنة وستعمل على تقليص خسائرها كما فعلت في أفغانستان. وإذا حصل الإيرانيون على القنبلة النووية فقد لا تكون هيمنتهم الإقليمية حلما بعيد المنال.
ثانيا، إذا لم ينصب الانتباه على شبكة وكلاء إيران الهائلة الآن فسوف تنمو سريعا كالفطر وتضر في نهاية المطاف ليس بمصالح الولايات المتحدة الثانوية فقط، بل بمصالحها الأساسية أيضا. وليست هذه الميليشيات مجرد إزعاج فقط بما تسببه من أضرار هامشية، بل هي مشكلة استراتيجية ستنمو ما لم تعالج على نحو مناسب. وما هجمات "حماس" التاريخية ضد إسرائيل إلا أحدث دليل على ذلك.
أكثر ما يميز إيران برغماتيتها وصبرها. وإن لم تُردع فسوف تواصل ممارستها للإكراه والتحرش والاعتداء حتى تبلغ ما تريد
انقضت سنوات عديدة وشركاء أميركا العرب يحذرون واشنطن من سرطان هؤلاء الوكلاء. وشعر العرب بالحيرة بقدر ما شعروا بالصدمة عندما علموا أن واشنطن لم تهتم حتى بمناقشة هذه القضية مع طهران خلال المفاوضات النووية التي أفضت إلى خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2015. فالقنبلة الإيرانية الحقيقية في نظرهم هي هؤلاء الوكلاء وليس السلاح النووي.
الهاجس الأول معتدل، لكنه مقلق في نهاية المطاف. فما من طريقة تمكننا من التنبؤ بشيء من الثقة إن كانت إيران ستحافط على مقدرتها على فعل ما تفعله الآن في المنطقة وبالنجاح نفسه.
فهذا النظام، الذي بالكاد يحافظ على استقراره الداخلي بسبب تناقضاته المتأصلة وصراعاته الاقتصادية الشديدة واشتباكاته مع شعبه، يمكن أن ينفجر في أي لحظة. وربما تشتد حدة المعارضة المحلية للمخططات الإيرانية في المنطقة. وبوسع واشنطن تشكيل هذه العمليات لصالحها، لكنها لا تستطيع السيطرة عليها.
التهديد الحقيقي
لن تغادر الولايات المتحدة الشرق الأوسط بسبب أي مما تفعله إيران؛ فالتهديد الحقيقي الوحيد لاستمرار الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط هو ما تقرره السياسة في واشنطن.
وإذا ما توفر إجماع أميركي على الأهمية الاستراتيجية للمنطقة- وهو متوفر- فإن الولايات المتحدة ستحتفظ بقوات وأصول لها في ذلك الجزء من العالم ملتزمة بردع إيران عن الإضرار بالمصالح الأميركية الأساسية وإدارة تهديدها الإقليمي.
وهذه هي الكلمة المفتاحية للشطر الثاني من تلك المهمة– الإدارة. فما لم تقرر الولايات المتحدة الإطاحة بالنظام في طهران، وهو ما لن تفعله، فإن مشكلة إيران ليست مشكلة ينبغي حلها بل إدارتها.
أما التوجس الثاني بشأن الآثار المحتملة لنمو شبكة وكلاء إيران فهو أمر أكثر إلحاحا. وإذا لم تمارس الولايات المتحدة مزيدا من الضغوط على إيران كي تكبح جماح وكلائها (لأنها لن تتخلى عنهم، فلنواجه الحقيقة)، فسوف ينأى شركاء أميركا الإقليميون بأنفسهم عنها أو يمضون في مسارات عمل تضر بمصالحها.
يمكن للولايات المتحدة دوما أن تستثمر في معدات عسكرية أفضل وتدريبات أفضل في مواجهة أكثر فاعلية لتكتيكات إيران غير النظامية
يمكن لإسرائيل أن تهاجم إيران في المرة القادمة التي تتعرض فيها لهجوم كالذي حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول. ولكن في الواقع، لا تعتمدوا على رد إسرائيل على وكلاء إيران إذا تعرضت لضربة منهكة أخرى. وإذا ضغطت إسرائيل على الزناد فستضطر الولايات المتحدة إلى الانخراط معها في المعركة، وهذا بالضبط ما حاولت دوما تجنبه.
أما العرب وبعد أن ضاقوا ذرعا بواشنطن وغياب اهتمامها بأمنهم، فبوسعهم أن يسترضوا إيران أكثر وأن يمتنوا علاقاتهم مع الصين وروسيا وأن يبدأوا في تقييد أو منع وصول الولايات المتحدة إلى المنطقة.
سيكون ذلك مشكلة كبيرة لواشنطن لأنه لا يمكنها أن تفعل في المنطقة إلا القليل بغياب التعاون العربي وبغياب سماح عربي بالوصول إليها. فالبنية التحتية العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط برمتها تعتمد على موافقة الحكومات العربية. وإذا أخذت هذه الحكومات بالتردد في هذه المسالة، فقد ينهار موقع واشنطن الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
يمكن للولايات المتحدة دوما أن تستثمر في معدات عسكرية أفضل وتدريبات أفضل في مواجهة أكثر فاعلية لتكتيكات إيران غير النظامية. ويمكنها تطبيق المزيد من العقوبات الهادفة والضغط الدبلوماسي على النظام. إلا أن علينا أن نكون صادقين ونعترف أنه في غياب نهج شامل يعالج الحوكمة الرديئة والاقتصاد السيئ في جميع أنحاء المنطقة، فستستمر إيران في الإفادة من هذه الظروف وتجنيد الناس لقضيتها.
جهد جماعي
ينبغي التصدي للتحدي الإيراني الإقليمي بالشراكة مع إسرائيل والعرب. ولا سبيل يمكن واشنطن وحدها من القيام بذلك. فليس لديها المعرفة أو الأدوات أو الإرادة للقيام بذلك بشكل صحيح بالاعتماد على نفسها.
ومسؤولية أميركا الأساسية في هذه الشراكة هي أن تستعيد ثقة العرب والإسرائيليين بضمانها أمنهم المادي، أي لا مزيد من الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية التي تقصف أهدافا مدنية وتقصف البنية التحتية الحيوية وتقتل مدنيين أبرياء. مثل هذه الهجمات الإيرانية ومعها الهجمات القاتلة ضد القوات الأميركية في المنطقة، تبرر لواشنطن أن تقوم برد عسكري عقابي أشد.
وسيكون على العرب بدورهم أن يلتزموا ببناء قدرات مناسبة فعليا للقتال في المنطقة الرمادية. بريق أقل إنما قوة قتالية أكثر واقعية.
ومن ناحية أخرى، على الإسرائيليين أن يتقبلوا أنهم ما داموا يرفضون التسوية وصنع السلام مع الفلسطينيين، فسوف يتوفر لـ"حماس" وبالتالي لإيران السبب والفرصة لتلجأ إلى العنف ضد الإسرائيليين. كما أن على الولايات المتحدة أن تلتزم بصنع السلام بين الإسرائيليين المعتدلين والفلسطينيين المعتدلين لأن أحد أوجه هذا السلام أنه سيكون كارثيا على طهران.
الردع ليس غاية في حد ذاته
إن الدعوة إلى استعادة قوة الردع الأميركية بمواجهة إيران أمر معقول ومفهوم، ولكن لا بد من ارتكازها إلى تشخيص أفضل للمشكلة الإيرانية.
علينا أن نكف عن الادعاء بأن مزيدا من القوة العسكرية ضد إيران سيقدم حلا سحريا لهذه المشكلة. لا بد من احتواء هذه المشكلة
علينا أن نكف عن الادعاء بأن مزيدا من القوة العسكرية ضد إيران سيقدم حلا سحريا لهذه المشكلة. لا بد من احتواء هذه المشكلة، والسبيل الوحيد لقص أجنحة إيران بفعالية هو الشراكة الجادة مع إسرائيل والعرب.
لقد اتبعت الولايات المتحدة مع حلفائها الغربيين هذا النهج ضد الاتحاد السوفياتي، وحققت نجاحا كبيرا. وما من سبب يمكن أن يمنعها من تحقيق النجاح مع إيران، وهي العدو الأقل شراسة بكثير.