ربّما يتوَجَّب أن أعتذر للقراء الكرام بسبب إلحاحي على الموضوعات التربوية التعليمية. قد يكون هذا نتيجة لتأثير المهنة التي مارستُها وتدرّجتُ فيها خمسا وثلاثين سنة، بدءا من الصفوف الابتدائية إلى الجامعيّة، فأرجو المعذرة. لكن أحبّ أن أقول وأعتَزّ بهذا القول: إنّني على امتداد سنوات التعليم كنتُ، في الوقت نفسه، أتعلَّم حتى من أصغر تلامذتي. وفي رأيي أنّ كلّ مَن يتصرّف أو يعمل بصدق ومعرفة وإخلاص لا بدّ من أن يصير في وقتٍ واحِدٍ معلِّما وتلميذا. وبحكم هذا الرّأي أو النّظر سأتناول اليوم موضوع المطالعة الذي أعتبره مُتَمِّما رئيسيّا للمناهِج التعليمية، وبالطّبع، أساسيّا في إغناء الثّقافة.
إذا كانت المناهج التعليمية المُقَرَّرَة هي الأسس والمَحاوِر لاكتساب المعرفة، فإنّ المطالعة هي الأفقُ المفتوح على تَنوُّع المَعارِف والتّجارب بمختلف ألوانها ومستوياتها، وبما يناسِب الأذواق والخيارات المختلفة؛ كما أنّها نهجٌ لتعميق القدرات، فوق أنّها بين طُرُقِنا المهمّة والضّروريّة للانتساب إلى عالمنا المَعرِفيّ المتَطَوّر بلا توقُّف، ولتحقيق دورٍ فاعل فيه.
المطالعة هي الباب المفتوح على التُّراث المكتوب. كما أنّها الأفقُ المفتوح لاستكمال ما لا يمكن أن تُنجِزَه المُقَرَّراتُ الدراسيّة الرسميّة. وهي الرحلةُ الساحرة أو السحريّة في فكرٍ آخر وحتى في زمنٍ آخر.
المطالعة هي الباب المفتوح على التُّراث المكتوب. كما أنّها الأفقُ المفتوح لاستكمال ما لا يمكن أن تُنجِزَه المُقَرَّراتُ الدراسيّة الرسميّة
المُطالَعة هي حديقةُ المعرفة النّابعة من التّجارب، المؤلمِ منها والمُفرِحِ والمُضيء المُرشِد، كمثل صدور هذه المعرفة عن الفكر التّأمُّليّ والنّظريّ وعن معارفَ متنوّعة وأذواقٍ مُتَبايِنة لا يمكن أن ترويَها المناهج التّعليمية.
المطالعة طريقُ المعرفة المتواصِلة، التي يوجِّهُها الذوقُ الشخصيّ والمُتَطلّبات الشخصيّة، وإن لم تكُن المختبرَ العلميّ دائما. هي مواكَبةُ العالَم المَعرِفيّ، وإن بلا تخَصُّصٍ أو تَعمُّق. فهي أشبه بنزهة بل برحلةٍ اختيارية غِذائية معرفيّة ومُمْتِعة. وهي، إلى ذلك، نهجٌ يتمّ اكتسابُه بالممارسة.
لا تُغني المطالعة عن الدراسة المَنهَجيّة والمُعَمّقة، بالتّأكيد، ولكنها تَرفدُها وتَصِلُها بآفاق جديدة وتهبُها الحَيَويّة والراهنيّة. كما أنّ المطالعة منبعٌ آخر للمعرفة والاطّلاع على الأساليب اللغوية، العربيّة خاصّة وغير العربيّة، الفنّيّة منها والمعرفية العامّة.
نعرف، قبل كلّ شيء، أنّ اكتسابَ اللغةِ والأساليب الكتابية، سواء كانت أدبيّة أو تاريخيّة أو عِلميّة، لا يتَحَصّل من دروس القواعد والنظريّات المعرفية وحدها، مهما بلغت أهمّيتُها، وهي مهمّة بل أساسيّة بالتّأكيد.
ذلك أنّ الكفاءاتِ والقدرات المعرفيّة اللغوية الكتابيّة العامّة التي تتجاوز المَناهِجَ تُكتَسَبُ من هذا العالم الكتبيّ - الكتابيّ أو هذه الحياة والأفكار المكتوبة التي تُداخِل بين اللغة والمعرفة التاريخية والأخيلة المتنوِّعة وحتى الترفيهيّة. إنّها تُكْتَسَبُ من كنوز الأدمغة الكاتبة والتجارب الغنيّة في مختلف الظروف والأزمنة.
ونعرف أنَّ التّفَرُّدَ والإبداعَ يتطلّبان، فوق ذلك، المعرفةَ الشّخصيّة التّجرُبيّة والمُتخصِّصة، والحياتيّة المباشرة، في مختلف مستوياتها ومحاورها وآفاقها؛ كما يتطلّب خصوصِيّةَ الفكر والخيال ؛ لأنّ الكتابة هي صوتُ الفكر والدّواخل الإنسانيّة، كما هي صوتُ العالَم اليوميّ وصوتُ الخبرات المعرفيّة والتّاريخيّة.
ومهما قلنا في أهمّيّة التجارب والتّأمُّلات وخصوصيّتها، وهي مهمّة بالتّأكيد ولا إبداع بدونها، فإنّها تَغنى وتتَدعَّم وتَتّضح بما يغذّيها من الرّوافد الفكرية المعرفيّة. هذا دون أن ننسى الدّخولَ في رحلات الفكر والخيال المُبدِع، وغزوَ آفاقِ المجهول الإنسانيّ والمعرفيّ العلميّ، فضلا عن الدخول في أسرار اللغة وسحرها.
الكتابُ والكتابةُ نعمةٌ تالية تُحَقِّق التّواصُلَ بَعْدَ نعمة الكلام، وتعالج بُعدَ المسافة وبُعدَ الزّمن وتَنَوُّعَ المَصادِر والمواقفِ والأذواق، ما مضى وما حضر وظهر وما ظلّ في مستوى الفكر. هكذا يتحقّق رحيلُ القارىء في البواطِن والأمزجة، في العوالم والأزمنة، في الفكر ووقائعِ التاريخ. وبهذه القراءة يتَحقَّقُ له اتساعُ الرؤية. إذ تتميّز القراءة بإتاحة الارتحال بين مختلف العوالم والرؤى، مختلفِ آفاق الحقائق ومختلفِ وجوه الحياة ومُجْرَياتها.
فالمطالعة هي البعدُ الشخصيّ أو البرنامجُ الاختياريّ من المعرفة والتّفاعُل. لأنها تقوم على الاختيار وتتخيّر ما يلائم الذّائقة الشخصيّة والمزاجَ والحاجةَ المعرفيّة واللحظة المناسبة. تقدِّمُ خاصّة ما يناسب المستوى المعرفيّ والمعرفةَ الراهنة الحيّة، المعرفة التي ترفدُ المُمَنْهَجَ وتفتح الأفقَ على الجديد.
أن نقرأ هو أن نتابعَ حركةَ الزمن وحركةَ الفكر، بل حركة العالم وتحوُّلاتِه؛ هي أن نرحل فكريّا أو خياليّا، أن نتحدّى المسافات
المطالعة هي مدرسةٌ خاصّة بالقارىء، يختارها بحسب ذوقه ومزاجه ووقته وإمكاناته. هي مدرسةٌ مفتوحة على الأفكار والمعارف والتواريخ والأخيلة بتنوُّعاتها. إنها الغذاءُ الثقافيّ الضروريّ لمواكَبة مسيرة الفكر ومسيرةِ العلم وتطوّرِ الأمزجة وتطوّرِ الأساليب ومغامرات الخيال واستقبال رياح المعرفة وفعل المعرفة.
هل يمكن أن نعاصرَ كاتبا كبيرا، مفكِّرا باحثا أو مؤرِّخا أو روائيّا أو شاعرا ويبقى مجهولا لدينا؟ هل نبقى في حدود المناهج المدرسية، مع أنّها مدروسةٌ بوصفها طريقا أو كفاءات تُهَيِّء للطالب القدرة العالية على التّواصُل بمنابع الفكر والمعرفة، وليست ختام المعرفة؟
أن نقرأ هو أن نتابعَ حركةَ الزمن وحركةَ الفكر، بل حركة العالم وتحوُّلاتِه؛ هي أن نرحل فكريّا أو خياليّا، أن نتحدّى المسافات، أن نعرفَ وننموَ ونغتني ويغمرَنا النور.
أن نقرأ هو أن نرفضَ مَحدودِيّتَنا ونهجمَ على أفق المعرفة وأسرار المعرفة وأنوارها، طلَبا لاستجلاء المجهول، بل غَزْوا للمجهول.