"الخوف أكثر القتلة شراسة، لكنه لا يقتل، وإنما يحول دون الحياة".
مضى زمن ليس بالبعيد، كان نضج المرء يعني أنه خلّف مخاوفه وراءه، كي يتجه، شيئا فشيئا، نحو سن الرشد. كان النضج يتطلّب التحرر من الأشباح المخيفة، وكل ما يتولد عن تصور مشوش عن العالم، كي يأخذ المرء بزمام أموره، فيساهم في بناء مصير جماعي. إلا أن الخوف اليوم انتقل من عالم الأشباح المتوهمة هذا، كي يصبح ركنا من أركان الوجود. فهو لم يعد حالة نفسية تتعلق بالأفراد، وتكون دراستها وقفا على السيكولوجيا، وإنما غدا ظاهرة اجتماعية عامة تنكبّ عليها السوسيولوجيا.
لقد انقلبت القيم، فلم يعد الخوف إحساسا مشروعا، وإنما كثافة لا مجال للاستغناء عنها. غدا علامة على نضج، وأداة تفكير. ولا شك أن وراء هذا التحوّل عوامل فلسفية وسياسية معقدة يجملها زيكمونjباومان في كتابه "الحاضر السائل" في كون الحداثة أخذت تمر من مرحلتها "الجامدة" كي تنتقل إلى ما يطلق عليه المرحلة "السائلة".
تخلخل البنى
في هذه المرحلة لم تعد البنيات الاجتماعية التي تحدد الاختيارات الفردية قادرة على الصمود. كما أن العلاقة بين السلطة والدولة أخذت تنفك عراها، لأن السلطة تبعثرت في فضاء لم يعد للدولة عليه سلطان. فضلا عن ذلك فإن الضمانات التي كانت الدولة توفرها للأفراد حال تعرضهم لمكروه، قد عرفت كثيرا من التناقص. مما جعل الأفراد يبحثون عن حماية، وما من شأنه أن يحقق لهم بعض الطمأنينة. بل إن باومان يذهب حتى التأكيد "أن الأحلام المعاصرة، وصورة التقدم قد انتقلت من تقاسم تحسين الأوضاع، إلى رغبة الفرد في أن ينجو بمفرده. فلم يعد التقدم يفهم في سياق وثبة نحو المستقبل، وإنما فقط في ارتباطه بالرغبة في البقاء ضمن المتسابقين". لم يعد رغبة في أخذ قصب السبق، وإنما في عدم الإقصاء من السباق.