"المجلة" على الحدود العراقية – الإيرانية... تقصّي أحوال "الكولبار"https://www.majalla.com/node/306011/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82%D9%8A%D8%A9-%E2%80%93-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%8A%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%82%D8%B5%D9%91%D9%8A-%D8%A3%D8%AD%D9%88%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%B1
بينما كانت السُلطات الإيرانية تحتفي بما حققته من "انتصار" على أكرادها، بعدما فرضت "اتفاقا أمنيا" على الحكومة العراقية يتضمن إبعاد عشرات الآلاف من اللاجئين الأكراد الإيرانيين من المناطق الحدودية بين البلدين، وتفكيك أحزابهم السياسية وسحب مختلف أنواع الأسلحة منهم، كانت مؤسسة "HRI" الحقوقية الإيرانية تُعلن أن أعداد ضحايا حاملي البضائع على طرفي الحدود بين البلدين، المعروفين باسم الـ"كولبار"، قد وصلت خلال النصف الأول من السنة الفارسية الراهنة (21 مارس/آذار-21 سبتمبر/أيلول) إلى 85 ضحية، سقطوا جميعا نتيجة إطلاق نار مباشر عليهم من قِبل قوات حرس الحدود الإيراني.
هؤلاء الضحايا هُم جزء من آلاف غيرهم، يُقتلون بشكل متواتر وشبه يومي، منذ سنوات وعقود؛ فالـ"كولبار"، التي تعني في اللغة الكردية المحلية "حاملي البضائع"، المُقدرين حسب إحصاءات غير رسمية بأكثر من 60 ألف شخص، يمتهنون حمل البضائع على ظهورهم، نقلها من داخل العراق، والسير بها لأكثر من 30 كيلومترا، وصولا إلى داخل إيران، عبر الممرات الجبلية الوعرة بين البلدين.
تربط منظمات حقوقية بين تنامي أعداد الضحايا "الكولبار" وتصاعد أشكال الاحتجاج في المناطق الكردية
مجموع الأحزاب الكردية الإيرانية، ومعها المنظمات الحقوقية والنشطاء المدنيون، الإيرانيون عموما والأكراد منهم خصوصا، يحملون السلطات الإيرانية مسؤولية ما يجري يوميا بحق هذه الطبقة من العاملين. فسلوك عناصر الجيش والأجهزة الأمنية في نقاط المراقبة الحدودية تجاه أفراد الـ"كولبار" لا يتصف بأي مستوى من المسؤولية؛ فالنار تطلق مباشرة على عُمال الـ"كولبار"، ويُسدد عناصر القوات الإيرانية طلقاتهم نحو المناطق المُميتة من أجسادهم، من دون أي تحذير صوتي أو إنذار مسبق بإمكانية إطلاق النار.
كذلك تتهم هذه الجهات السلطات الإيرانية باستخدام عمليات الاغتيال ضد عمال الـ"كولبار" لترهيب المجتمعات الكردية في إيران؛ إذ تربط المنظمات الحقوقية بين تنامي أعداد الضحايا "الكولبار" وتصاعد أشكال الاحتجاج والتظاهر التي تناهض النظام الحاكم في المناطق الكردية من إيران؛ فما يحدث بحق "الكولبار" ليس مجرد سلوك أمني وظيفي اعتيادي تقوم به تشكيلات عسكرية مخولة بمراقبة الحدود، بل هي واحدة من أدوات النظام لـ"تهديد وابتزاز" المجتمع الكردي؛ فـ"الكولبار" هُم بمثابة "رهينة كردية بيد السلطات الإيرانية"، كما يقول ناشط حقوقي كردي إيراني التقته "المجلة".
أثناء رحلة "المجلة" نحو المناطق الحدودية بين العراق وإيران، لمقابلة أفراد "الكولبار"، كانت وسائل إعلام محلية كردية/إيرانية، وصفحات عامة في وسائل التواصل الاجتماعي في مدينة "سقز" الكردية الإيرانية، تنشر صورة لرجل في أواخر الثلاثينات من عُمره، اسمه حامد فرج بور، تقول إنه اغتيل نتيجة إطلاق حرس الحدود الإيراني النار عليه مباشرة قبل يومين، في منطقة "هانجه بي زال"، في القسم الإيراني المقابل لبلدة "سيد صادق" في إقليم كردستان العراق، وجُرح معه ثلاثة أفراد آخرين، كانوا من المجموعة نفسها، واحد منهم لا تزال حالته حرجة.
غالبا ما يلاقي أفراد "الكولبار" مصيرا مأساويا، فخلال السنوات القليلة الماضية، سقط 8 في المئة منهم بين قتيل وجريح
حاولت "المجلة" التواصل مع أعضاء من عائلة بور مرارا، لكنهم رفضوا التصريح ومقابلة أية وسيلة إعلامية أجنبية، خوفا مما قد تفعله السلطات الإيرانية بهم مستقبلا. تمكنت "المجلة" في المحصلة من التواصل مع أحد أفراد مجموعة فرج بور، الذي أخبرها- شريطة عدم الكشف عن اسمه- بأنهم كانوا يحملون بضائع عادية، أغلبها مواد تجميل نسائية، وأنهم كانوا ينزلون من تلة جبلية، حينما أطلقت عناصر من حرس الحدود وابلا من الرصاص عليهم، لم يتمكنوا بسببها من نقل جرحاهم إلى بلدة "بانه" القريبة إلا بعد أكثر من ساعتين من وقوع الحادثة.
عرفت "المجلة" فيما بعد أن فرج بور حاصل على تعليم متوسط، وهو أب لثلاثة أطفال، يعمل في مهنة "الكولبار" منذ سنوات قليلة وحسب، بعد فشله في الحصول على عمل أو وظيفة إدارية في مدينتي "سقز" و"كرمانشاه" القريبتين، وتراجع الواردات الزراعية في قريته "در زيارات"، بسبب الجفاف وتراجع اهتمام السلطات المحلية بالاقتصاد الزراعي. فلجأ إلى مهنة "الكولبار"، مثل عشرات آخرين من أبناء قريته.
مجموع عُمال "الكولبار" الذين التقتهم "المجلة"، في ضفة إقليم كردستان العراق من الحدود، غالبا ما تتطابق مصائرهم النهائية؛ فعالبية واضحة منهم ذوو تحصيل تعليمي معقول، وأعداد غير قليلة منهم أنهوا معاهد مهنية متوسطة أو حتى كليات جامعية. كلهم من البيئة الكردية الريفية غربي إيران، أو يتحدرون من العائلات التي نزحت نحو المدن الرئيسة منذ أوائل الثمانينات، حين اندلعت الحرب بين النظام الإيراني والأحزاب الكردية الإيرانية وقتئذ. نسبة واضحة منهم فشلت في الحصول على وظائف حكومية أو خاصة، بسبب سياسات التمييز الاقتصادي والسياسي التي تطال الأفراد والمناطق الكردية في إيران. وهُم بمعنى ما أفراد تضررت عائلاتهم ومواقعهم الاجتماعية ومستوياتهم الاقتصادية نتيجة تدهور الإنتاج والعوائد الاقتصادية للزراعة في البلاد، خصوصا بعد مرحلة إعادة هيكلة الاقتصاد عقب فرض العقوبات الاقتصادية على إيران. وغالبا ما يلاقي أفراد "الكولبار" مصيرا مأساويا، فخلال السنوات القليلة الماضية، وحسب أرقام المنظمات الحقوقية المختصة، سقط 8 في المئة من أفراد مجموعات "الكولبار" بين قتيل وجريح.
يختصر الشاب رفند الأسباب التي تدفع عشرات الآلاف من شُبان أكراد إيران إلى امتهان "الكولبار" بعبارة واحدة: "لو كان ثمة عمل آخر، أي عمل، لما أصبحنا كولبار". رفند كان قد فقد واحدا من زملائه قبل أسابيع قليلة هو أرسلان رسولي حين كانا ينقلان بضائع في سلسلة الجبال الشمالية.
لا يعرف "الكولبار" عادة البضاعة التي يحملونها على طرفي الحدود، ولا حتى مُلاكها الحقيقيين، لكن غالبية زبائنها من "الأغنياء الجديد"
في حديثه مع "المجلة"، يروي رفند مشهدا عن أحوال أفراد "الكولبار"، ويقول: "عادة ما نودع عائلاتنا حينما نُغادر المنازل ذاهبين إلى موقع العمل، وعندما ننطلق من تلك المواقع، نبدأ بتوديع بعضنا البعض". ويضيف: "كل ذلك في سبيل الحصول على أجرة يومية تتراوح بين 20-30 دولارا عن كل رحلة، ذهابا وإيابا، نقطع خلالها مسافة تتجاوز في بعض الأحيان 30 كيلومترا، وعبر أكثر الممرات وعورة، حاملين أوزانا لا تقل عن 40 كيلوغراما، متحملين مسؤولية أنفسنا وسلامة البضائع التي نحملها، وفي مواجهة المنحدرات ومئات نقاط المراقبة الأمنية والدوريات العسكرية المتنقلة، والمزودة بأحدث أنواع أجهزة المراقبة وأدوات القنص، وطبعا أفرداها مخولون بفعل ما يعتبرونه مناسبا، من دون ضوابط أو محاسبة ومحاكمة مستقبلية".
لا يعرف "الكولبار" عادة البضاعة التي يحملونها على طرفي الحدود، ولا حتى مُلاكها الحقيقيين؛ إذ ثمة "وشيش" خاص بكل مجموعة من "الكولبار"، والتي تتراوح أعدادها بين 20-40 فردا، يطلب منهم عادة التجمع قُبيل الغروب في نقطة من الحدود الإيرانية، ومن ثم يرشدهم للذهاب إلى نقطة في الطرف الآخر من الحدود، مزودا إياهم بكلمة سر واسم شخص سيحملهم بضائع ليعودوا بها إلى النقطة نفسها.
لكن معلومات متقاطعة، يرويها "الكولبار" والسكان المحليون على حد سواء، تقول إن شبكات نقل البضائع هذه تعمل لصالح شخصيات نافذة في إيران، تملك تغطية سياسية وأمنية على أعلى المستويات، وشراكات مركبة مع جهات مختلفة من المركز؛ فهذه البضائع تُقدر قيمتها السنوية بمئات ملايين الدولارات، وتشمل مختلف المواد التي تمنع السلطات الإيرانية استيرادها بشكل رسمي، أو تفرض عليها ضرائب كبيرة بالنسبة لقيمتها الفعلية. تشمل تلك البضائع مواد تجميل نسائية وهواتف نقالة ومشروبات روحية وبعض أنواع الأقمشة، وأحيانا أدوية طبية خاصة أو أحذية وملابس من ماركات عالمية.
تملك تلك المواد سوقا خاصة في الداخل الإيراني، غالبية زبائنها من أبناء طبقة "الأغنياء الجدد" في إيران، فالقيمة السوقية للمواد التي يتم نقلها عبر الحدود، تبلغ أضعاف متوسط مداخيل مواطني الطبقة الوسطى في إيران.
تكشف هذه الدائرة من العلاقات بين أفراد "الكولبار" وأعضاء "طبقة الأقوياء" الكثير من بواطن وحقائق الحياة العامة في إيران؛ فـ"الكولبار" هُم ضحايا تخلي الدولة والسلطة الحاكمة عن الكثير من وظائفها الاقتصادية وأدوارها القانونية تجاه المجتمعات المحلية، من خلال عدم توفيرها لشروط "الحياة الآمنة والكريمة" لهؤلاء الشبان، ولو بأقل المستويات. ولأجل ذلك يندرجون في شبكات عمل "الكولبار"، التي هي فعليا انخراط في حلقة "انتحار جماعي"، ولصالح أعضاء نافذين من "طبقة الأقوياء"، واستجابة لمتطلبات رفاه الكثير من أفرادها وأجيالها الجديدة.
المخرج الكردي/ الإيراني بهمن قوبادي نقل محنة أفراد "الكولبار" من خلال فيلمه الشهير "زمن الخيول المخمورة"
لكن أكثر ما يثير الاستغراب هو "بلادة" تعامل السلطات الإيرانية مع هذا الملف. فطوال سنوات كثيرة متتالية، يُقتل أفراد "الكولبار" كـ"ممارسة روتينية" من قِبل السلطة الحاكمة. وعلى الرغم من مئات التقارير التي تصدرها المنظمات الحقوقية، ومعها دعوات سياسية ونقابية إلى إيجاد حلول ما لقضية "الكولبار"، بأي شكل كان، فإن السلطات الإيرانية لم تحرك ساكنا، خلا عمليات القتل شبه اليومية؛ إذ تقول الإحصاءات الموثوقة إن أعداد الضحايا خلال العام الماضي تجاوزت 154 ضحية، هذا غير العشرات من الذين ذهبوا ضحايا السقوط من المرتفعات أو التجمد أو هجمات بعض الحيوانات الجبلية أو التعثر بالألغام الحربية، الموزعة على طرفي الحدود منذ ثمانينات القرن المنصرم.
ويوجه النشطاء المدنيون والمثقفون الأكراد نداءات متتالية إلى المسؤولين الإيرانيين، يدعونهم فيها للتوقف عن استهداف أفراد "الكولبار"، الذين يشكلون الحلقة الأضعف والأكثر هشاشة في شبكات التهريب الخارجة على القانون – وفق تصنيف السلطات الإيرانية - ويدعونهم إلى استهداف رؤساء هذه الشبكات وكبار تجارها، إن كانوا جادين في إيقاف عمليات التهريب عبر الحدود، مطالبين إياهم بتحمل مسؤولياتها، من حيث توفير فرص العمل وخلق تنمية متوازنة في مختلف مناطق البلاد.
كان المخرج الكردي/ الإيراني العالمي بهمن قوبادي قد نقل محنة أفراد "الكولبار" من خلال فيلمه الشهير "زمن الخيول المخمورة"، الذي حاز جائزة "الكاميرا الذهبية" بمهرجان كان السينمائي، لكنه لم يدفع الرأي العام الإيراني، خلا الكردي منه، إلى اعتبار قضية "الكولبار" مسألة وطنية عامة.
بعض نواب البرلمان الإيراني المنحدرين من أصول كردية، من محافظات "كرمنشاه" و"إيلام" و"كردستان" و"أذربيجان" الغربية، وجهوا خلال السنوات الماضية انتقادات إلى السلطات الإيرانية، بسبب سلوكها تجاه أفراد "الكولبار"، لكن ضغوطا أمنية وسياسية مورست عليهم ودفعتهم للامتناع عن تكرار تلك الانتقادات؛ فالنواب الأكراد طالبوا بالتحقيق في الكثير من عمليات الاستهداف، التي جرت من دون أية حاجة إليها، مطالبين السلطات الإيرانية بالسماح لأفراد "الكولبار" بتكوين نقابات وجمعيات تستطيع حفظ حقوقهم وتأمين حياة كريمة لهم، لكن لم يحدث شيء من ذلك.