ديفيد كاميرون... مهندس التقشف

بعد عودته من باب السياسة الخارجية... قام بأول زيارة إلى أوكرانيا لتأكيد الدعم العسكري

ديفيد كاميرون... مهندس التقشف

لندن-

نظر البعض إلى العودة المفاجئة لرئيس الوزراء البريطاني السابق، ديفيد كاميرون، كوزير جديد للخارجية على أنها محاولة أخيرة من قبل ريشي سوناك لإحياء حظوظ حزب المحافظين قبل الانتخابات العامة البريطانية المقبلة، المتوقع إجراؤها العام القادم.

كان كاميرون قد أدار ظهره للسياسة البريطانية في الخطوط الأمامية، بعد استقالته من منصب رئيس الوزراء البريطاني في أعقاب استفتاء البريكست (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي)، عام 2016، فترك مقعده في البرلمان وركز اهتمامه، بدلا من ذلك، على الأنشطة التجارية الربحية، التي لم تخل من إثارة الجدل في بعض الأحيان.

والحقيقة أن كاميرون قد وضع كل رصيده السياسي في حملة إبقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي، خلال الاستفتاء على البريكست الأوروبي، ولذلك كان شعوره بخيبة أمل شديدة حين جاءت النتيجة النهائية على عكس ما راهن عليه، فصوّت الشعب البريطاني لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي، وإن كان بفارق ضئيل.

ومن أجل ذلك ينظر لعودة كاميرون، غير المتوقعة الآن، إلى الواجهة الأمامية كوزير جديد للخارجية البريطانية في التعديل الوزاري الواسع النطاق الذي أجراه سوناك في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، على أنها محاولة من سوناك لتحسين علاقة بريطانيا التجارية مع الاتحاد الأوروبي بعد خروجها منه؛ وسعيا منه لإحياء مكانة بريطانيا في الشؤون العالمية.

 

 

مفاجأة سوناك

إذا كان سوناك يريد من تعديله الوزاري الجريء مفاجأة منتقديه، فمن المؤكد أن عودة كاميرون ساعدته على تحقيق هدفه، الذي فاجأ مجتمع الصحافة السياسية البريطانية بأكمله، إذ لم يكن أي صحافي ليتوقع مثل هذه الخطوة، وهو أمر نادر بالنظر إلى كيفية تسريب معظم التعيينات السياسية الحساسة في المملكة المتحدة مسبقا.

لم يكن أمام سوناك سوى القليل من الخيارات، خاصة بعد أن تحدت سويلا برافرمان علنا رغبات "داونينغ ستريت"

ومن المؤكد أن التعديل الوزاري الذي أجراه سوناك بغية إنعاش حظوظه السياسية المتدهورة، كان دراماتيكيا أكثر من المتوقع، فقد كانت معظم التوقعات تصب لصالح إقالة وزيرة الداخلية سويلا برافرمان، بعد أن قامت مؤخرا بسلسلة من التدخلات المثيرة للجدل، سواء بشأن قضايا حساسة مثل الهجرة غير الشرعية، أو المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في لندن، التي أثارت جدلا كبيرا، بعد أن باتت آراؤها اليمينية متداولة على نطاق واسع، يشيد بها أنصار الحزب المخلصون.
ولم يكن أمام سوناك سوى القليل من الخيارات، خاصة بعد أن تحدت سويلا برافرمان علنا رغبات "داونينغ ستريت"، مقر رئيس الوزراء، من خلال نشرها مقالا ينتقد بشدة طريقة تعامل الشرطة البريطانية مع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين الأخيرة، في لندن، والتي شهدت بعض الهتافات المعادية للسامية بشكل علني.
ويعتقد جملة من المراقبين السياسيين أن آراء برافرمان الصريحة هي جزء من محاولتها وضع نفسها في مصاف قيادة حزب المحافظين في حال خسارة سوناك الانتخابات العامة المقبلة، وهو ما سيفتح الباب واسعا أمام منافسة جديدة على القيادة.


تعزيز  آفاق بعيدة


من المثير للدهشة أن عزل برافرمان المفاجئ من مجلس الوزراء قد يؤدي في الواقع إلى تعزيز آفاق قيادتها على المدى الطويل، والتي يمكن تنسيقها بشكل أفضل من المقاعد الخلفية. بل إن البعض يشير إلى أنها ربما تعمّدت إطلاق تصريحاتها المثيرة للجدل فيما يتعلق بقضايا مثل التشرد وشرطة العاصمة، لكي تسبب الضرر لنفسها مرحليا، لأنها تعتقد أنها ستفيد في نهاية المطاف طموحاتها السياسية على المدى الطويل.
ومن المؤكد أن تعيين كاميرون الذي يُنظر إليه كشخصية محافظة أكثر اعتدالا، وإقالة برافرمان، يشيران إلى تحول من اليمين إلى الوسط في السياسة البريطانية، وهو ما يأمل سوناك أن يساعده في إحياء حظوظه السياسية.
وقد كان العنصر المهم الآخر في التعديل الوزاري الذي أجراه سوناك هو تعيين وزير الخارجية السابق جيمس كليفرلي بدلا من برافرمان في وزارة الداخلية.

عزل برافرمان المفاجئ من مجلس الوزراء قد يؤدي في الواقع إلى تعزيز آفاق قيادتها على المدى الطويل، والتي يمكن تنسيقها بشكل أفضل من المقاعد الخلفية

ومع ذلك، فإن تعيين كاميرون سيُستقبل بلا شك بمشاعر متضاربة بين كثير من أعضاء البرلمان المحافظين، الذين يعتبرون رئيس الوزراء السابق شخصية مثيرة للانقسام بوصفه مهندس التقشف في أعقاب الانهيار المالي عام 2008، ورئيس الوزراء في الفترة التي شهدت تصويت البريطانيين لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. كما يتذكر كثيرون سياسة إدارته الخارجية ودوره في الإطاحة بالديكتاتور الليبي العقيد معمر القذافي، وإغراق ليبيا في حرب أهلية مريرة.


وقبل تعيينه وزيرا للخارجية، أشار كاميرون إلى زملائه السياسيين المقربين في حزب المحافظين بأنه سيكون مهتما بالعودة إلى سياسات الخطوط الأمامية، ويفضل أن يكون ذلك مع دور قيادي في الشؤون العالمية. وبعد تعيينه لقيادة وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية، لم يضيع الوزير البريطاني الجديد أي وقت في جعل حضوره محسوسا، فقام بزيارة إلى أوكرانيا. وحيث إن بريطانيا من المؤيدين البارزين للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فإن ذهاب كاميرون إلى كييف، هو أول زيارة رفيعة المستوى في منصبه الجديد.
يعود دور بريطانيا كأحد الداعمين الرئيسين لكييف في حربها ضد روسيا إلى فترة ولاية بوريس جونسون كرئيس للوزراء. لم يكن لدى جونسون وكاميرون، اللذين كانا تلميذين متعاصرين في مدرسة "إيتون"، علاقات سياسية متطابقة دائما. ومع ذلك، لم يُظهر كاميرون أي تردد في دعم السياسة المؤيدة لأوكرانيا التي بدأها جونسون، مكررا الموقف المتمثل في أن بريطانيا ستواصل دعمها لكييف في الصراع، الذي دخل الآن شهره الحادي والعشرين دون نهاية في الأفق.


دعم عسكري 


قال كاميرون في مقطع فيديو نُشر في وقت لاحق: "سنواصل تقديم الدعم المعنوي والدعم الدبلوماسي لكم، ولكن قبل كل شيء الدعم العسكري الذي تحتاجون إليه ليس فقط هذا العام والعام المقبل، ولكن مهما طال الوقت الذي يستغرقه ذلك"، حسبما نشر مكتب زيلينسكي.
وذهب كاميرون إلى حد الإشادة بجونسون على الدعم الذي قدمه لأوكرانيا، حيث قال لزيلينسكي: "كانت لدي بعض الخلافات مع بوريس جونسون، لقد كان صديقي لمدة أربعين عاما، لكن دعمه لك كان أفضل شيء قدمه".

تعيين كاميرون لقيادة وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية يضمن أن تلعب بريطانيا دورا مهما ليس فقط في أزمة غزة ولكن أيضا في معالجة القضايا العالمية الكبرى الأخرى مثل الصراع الدائر في أوكرانيا

ومن ناحية أخرى، من المتوقع أن يكون نهج كاميرون، البالغ من العمر 57 سنة، في التعامل مع أزمة غزة أكثر دقة. ولا ننسَ أنه قد واجه، في أثناء توليه منصب رئيس الوزراء، انتقادات من الحكومة الإسرائيلية لوصف قطاع غزة بأنه "معسكر اعتقال"، وكان من مؤيدي حل الدولتين للقضية الإسرائيلية الفلسطينية التي امتدت طويلا. ولكنه، مع ذلك، لم يتردد في دعمه القوي لإسرائيل ردا على الهجوم الأخير الذي شنته "حماس" على إسرائيل، معلنا تضامنه الكامل مع تل أبيب، ومؤيدا الدعم الثابت لرئيس الوزراء وحكومة المملكة المتحدة، فكتب على موقع "إكس": "إنني أعلن تضامني المطلق مع إسرائيل في هذا الوقت الأكثر صعوبة وأدعم بالكامل رئيس الوزراء والمملكة المتحدة والحكومة في دعمها المطلق والثابت". ومن خلال منصبه كوزير للخارجية، من المرجح أن يحافظ كاميرون على دعم بريطانيا الثابت لإسرائيل وأن يتعاون بشكل وثيق مع الولايات المتحدة بشأن المبادرات الدبلوماسية المحتملة لمعالجة الأزمة.
إن تعيينه لقيادة وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية يضمن أن تلعب بريطانيا دورا مهما ليس فقط في أزمة غزة ولكن أيضا في معالجة القضايا العالمية الكبرى الأخرى مثل الصراع الدائر في أوكرانيا.
ومن المؤكد أنه سيتم طرح أسئلة تتعلق بأسباب عدم عثور رئيس الوزراء على مرشح بين النواب الحاليين ليصبح وزيرا للخارجية، ولماذا لم يلجأ إلى حليف مثل وزير الأعمال، كيمي بادينوش، أو وزير التسوية، مايكل جوف، لشغل هذا المنصب.
ولقد أعرب السير ليندسي هويل، رئيس مجلس العموم، عن مخاوفه بالفعل بشأن تعيين ديفيد كاميرون والخروج الجدير بالملاحظة عن التقليد المتمثل في وجود وزير الخارجية البريطاني في مجلس العموم، كما كان الحال مع أسلافه الأخيرين.


صراخ في مجلس العموم


في بداية أعمال مجلس العموم، بعد تعيين كاميرون، صرح هويل بأن خطورة الوضع الدولي الراهن والحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، تحتم- بشكل خاص- ضرورة التدقيق بشكل فعال في عمل مجلس العموم ووزارة الخارجية. وقد كلف هويل موظفي مجلس العموم بالعمل على ضمان أن يكون وزير الخارجية الجديد "مسؤولا بشكل مناسب" أمام مجلس العموم. وسيكون اللورد كاميرون أول موظف سام في الدولة يجلس في مجلس اللوردات منذ حكومة مارغريت تاتشر في التسعينات.
 

عند تعيين كاميرون في أحد أعلى أربعة مناصب في الدولة، اختار سوناك تجاهل ارتباطه الوثيق بواحدة من أكبر الفضائح المالية في المملكة المتحدة في السنوات الأخيرة

وعند تعيين كاميرون في أحد أعلى أربعة مناصب في الدولة، اختار سوناك تجاهل ارتباطه الوثيق بواحدة من أكبر الفضائح المالية في المملكة المتحدة في السنوات الأخيرة؛ فقبل عامين كشفت "بي بي سي بانوراما" عن وثائق داخلية تشير إلى أن كاميرون حصل على نحو 10 ملايين دولار (8.2 مليون جنيه إسترليني) لقاء سفر حول العالم روج فيه لشركة "غرينسيل كابيتال" المالية المثيرة للجدل.
وانهارت شركة "غرينسيل كابيتال" في مارس/آذار 2021، والتي حصل مؤسسها ليكس غرينسيل سيئ الصيت، على منصب حكومي عندما كان ديفيد كاميرون رئيسا للوزراء، والذي أصبح لاحقا موظفا لدى غرينسيل وصديقه في الوقت نفسه.
وربما تساعد حادثة "غرينسيل" في تفسير نتائج استطلاع سريع أجرته مؤسسة "يوغوف" على 2000 شخص بعد تعيين رئيس الوزراء السابق، أظهر أن 38 في المئة ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن تعيين كاميرون كان سيئا، بينما اعتقد 24 في المئة فقط بصواب القرار. هذا بينما كان 57 في المئة موافقا على إقالة السيدة برافرمان مقابل معارضة 20 في المئة فقط له.
ومع ذلك، يظل كاميرون حريصا على تأكيد أوراق اعتماده، حيث علق بعد وقت قصير من تعيينه قائلا: "رغم أنني كنت خارج الخطوط الأمامية للسياسة على مدار الأعوام السبعة الماضية، إلا أنني آمل أن تكون تجربتي- كزعيم للمحافظين لمدة أحد عشر عاما ورئيسا للوزراء لمدة ستة أعوام- مفيدة، وسيسعدني مساعدة رئيس الوزراء في مواجهة هذه التحديات الحيوية".
ولا أحد يمكنه التكهن بما سيؤول إليه المشهد السياسي في بريطانيا، بعد أن اتخذ سوناك قرار تعيين كاميرون، إذ لا نعلم إذا ما كان حزب المحافظين الحاكم سيتمكن من تقليص الفارق الكبير مع حزب العمال المعارض، بعد أن أظهرت آخر استطلاعات الرأي تقدم الأخير بـ 21 نقطة.

font change