الصورة قاتمة ومؤلمة في قطاع غزة. قتلى وجرحى ونازحون ومشردون. وتفشٍ للأمراض وخوف من مجاعة. كارثة متدحرجة، والمناطق الآمنة سراب. غزة تنضم إلى الجروح العربية المفتوحة والمنسية.
منذ هجوم "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول الذي قُتل فيه 1200 إسرائيلي، أسفر الهجوم الإسرائيلي عن مقتل أكثر من 17400 شخص، معظمهم من النساء والأطفال، في حين أن 22 مشفى من أصل 36 خرجت عن الخدمة.
مفاجأة 7 أكتوبر كشفت مخاطر أوهام الاكتفاء باحتواء الحرب. الحروب المجمدة تتفجر فجأة. إدارة الصراع ليست الوصفة الصحيحة لأزمات الشرق الأوسط. الحدود معرضة للاختراق والسدود مناعتها ليست أبدية.
سوريا مقسمة إلى ثلاث مناطق نفوذ تفصل بينها خطوط أشبه بالحدود بين الدول. في كل واحدة منها زعامات محلية وقواعد عسكرية وجيوش أجنبية. وليبيا مقسمة إلى منطقتين بينهما خطوط وحدود وآبار نفط وسدود مياه. والسودان فيه حرب مستعرة بدأت ترتسم فيها معالم جيوب السيطرة وجبهات القتال في "حرب الجنرالين". هذه الدولة التي انضمت حديثا إلى قائمة الحروب الأهلية العربية، نسيها العالم. عادت إلى الأخبار على وقع كوارث ترتكبها "قوات الدعم السريع" في دارفور، ذلك الإقليم المحشور بين حرب وجنرالين.
أزمات سياسية وكوارث عسكرية. جروح مفتوحة. لا يعاينها "الأطباء" و"المسعفون" إلا عندما تداهمها كوارث طبيعية أكبر. زلزال أو فيضان أو حريق
في العراق، مناطق نفوذ وقواعد أجنبية وميليشيات تتحدى الحكومة ولا تأتمر بأمرها. ساحة للصراع والرسائل بين أميركا وإيران.
وفي لبنان، فراغ أو تصريف أعمال في معظم المؤسسات السيادية الكبرى، الرئاسة والمصرف المركزي والأمن والقضاء والحكومة والبرلمان، وهناك "حزب الله" الذي يسيطر على القرار. وكذلك في اليمن، حيث "الحوثيون" والتمرد على الشرعية لمصادرة القرار والجغرافيا.
أزمات سياسية وكوارث عسكرية. جروح مفتوحة. لا يعاينها "الأطباء" و"المسعفون" إلا عندما تداهمها كوارث طبيعية أكبر. زلزال أو فيضان أو حريق.
فجأة تذكر العالم سوريا عندما ضرب زلزال كارثي شمالها الغربي في فبراير/شباط الماضي. سوريا المنسية عادت فجأة إلى الواجهة. اتصالات ومناشدات ومساعدات وخطوات لم تحل مشكلة سوريا والسوريين. مشكلتها أعمق، وسرعان ما نسيها العالم وتركها مع جروحها ومعاناتها واحتلالاتها واعتلالاتها.
بلاد تنام على ثروات، تقف مشلولة أمام فيضان أو زلزال أو حريق. مناسبة لتبادل الاتهامات... ثم النوم على المهدئات والسباحة في الجروح النازفة والإقامة في الانقسامات المفتوحة
ليبيا، تذكرها العالم عندما غمرت كارثة الفيضان درنة في سبتمبر/أيلول الماضي. كارثة تذكر بكارثة. تبادلت الأطراف المتحاربة قذف المسؤولية. حكومة طرابلس وجيش بنغازي لم يقصرا بإعلان البراءة من دم الفيضان. ليبيا ما بعد "الأخ العقيد" القذافي، التي حصل فيها التغيير قبل أكثر من عقد وتنام على كنوز من الثروات تقف مشلولة أمام فيضان.
كذلك الحال في العراق، عندما استيقظ عراقيو ما بعد "القائد" صدام، على كارثة الزفاف في سبتمبر. عرس تحول إلى مأتم. أشلاء متناثرة في قاعة للأفراح. حريق أنسى السياسيين خلافاتهم لفترة قصيرة، لكن سرعان ما تبادلوا الاتهامات بالفساد والإهمال. وعادوا إلى عاداتهم وخلافاتهم. كارثة تطوي أخرى بانتظار أخرى. عاد العراق إلى نسيان لا تعكره سوى المكاسرات "الوطنية" بين السياسيين، والضربات والغارات بين الميليشيات الموالية لإيران والقوات الأميركية.
المهم أن لا يدخل قطاع غزة في ساحة النسيان. أن لا يعتاد الناس على أخبار القتلى والنازحين والمهجرين. كل أزمة تشكل فرصة. كل محنة هي منحة
كوارث تذكر بأخرى. بدلا من أن تكون فرصة للبحث عن حلول لجذور الأزمات، تكون مناسبة لتبادل الاتهامات والتبرؤ من المسؤولية والنوم على المهدئات والسباحة في الجروح النازفة والإقامة في الانقسامات المفتوحة.
المهم أن لا يدخل قطاع غزة في ساحة النسيان. أن لا يعتاد الناس على أخبار القتلى والنازحين والمهجرين. كل أزمة تشكل فرصة. كل محنة هي منحة. لذلك، هناك ضرورة فلسطينية وعربية ملحة للتحرك وعدم الانتظار. التحرك نحو وقف النار وإدخال المساعدات والبحث في المسار السياسي والترتيبات المتعلقة بالأوضاع في قطاع غزة والضفة الغربية. هناك ضرورة بعدم الاكتفاء بصفقات وتفاهمات "احتوائية".
أسوأ خيار أن تعود غزة المدمرة والمجروحة إلى النسيان والحصار. أخطر سيناريو أن يصبح أهلها نازحين أو لاجئين أو قتلى أو أرقاما منسية. يجب أن لا تصبح غزة خبرا عاديا أو مجرد خبر، وأن لا تنضم إلى قائمة الأزمات العربية المزمنة والمنسية. جروحنا عميقة لكن ذاكرة العالم قصيرة وهمومه كثيرة.