في ما يشارفُ كتابُ 2023 على خاتمته السّوداوية، يأبى أن يُطبق فصله الأخير دون أن يكون توقيعُ النّهاية دما مسفوكا في غزّة على مرأى عالمٍ بلغَ سقوط إنسانيته قعر الهاوية، عالمٌ مفارقٌ يزعمُ استيفاء طفراته الحضارية على حدود الأرض، مُيمّما بوجهه شطر لانهائية الكوسموس، مُعتدّا ببطولات استكشاف الفضاء أبعد ما يكون، والاستعداد عمّا قريب إلى السّفر بين الكواكب.
وفي امتحان غير مسبوق من التاريخ المعاصر، شهدنا جميعا ضمير هذا العالم يتأرجح بصفاقة بين حربين ماحقتين، تبدوان متشابهتين علنا، لكنهما متناقضتين جذريا في العمق، حربٌ أولى بدأت غبّ الخروج من نفق محجر كورونا في غسق فبراير/ شباط 2022، وأمست مضاعفات وقائعها أشدّ تعقيدا وخرابا بين روسيا وأوكرانيا، بين روسيا وحلف الأطلسي بالأحرى في نفق 2023، ثمّ حرب ثانية أعرق بكثير بين إسرائيل وجميع حلفائها وغزة، ما بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
في حالة الحرب الأولى، أبدى العالم الموسوم غربا تعاطفه المطلق مع الطرف الأوكراني، وبذل أقصى ما ينبغي للتكتل مع هذا الطرف الأضعف ضد الآخر الأقوى، مُجنِّدا لذلك أحدث الأسلحة وأثقلها، مُضِخّا لسيل الأموال بلا انقطاع، مطوِّقا الخصم بالعقوبات الاقتصادية، محتضنا اللاجئين، ومفرطا في التضامن والتنديد والبكائيات في محافل الكون ومجمل التظاهرات عبر القارات، سياسية وثقافية وموسيقية ورياضية.
تتواصل وقائع هذه الجريمة الكاملة بدعم كلّي من أميركا وحلفائها الأوروبيين، وبعكس تكتلهم مع الطرف الأضعف في حالة أوكرانيا ضد روسيا، تكتلوا على النقيض مع الطرف الأقوى، إسرائيل ضدّ غزة
بلا هوادة شرعت قوى الغرب في مناصرة أوكرانيا الطرف الأصغر، الذي يبدو للعلن البلد المنتهكة سيادته الترابية من طرف روسيا الموصومة بالاحتلال، والجريمة كاملة على كاهل بوتين كما تروّج لذلك أميركا وزمرة كورالها من حلفائها الأوروبيين فيما يشبه جوقة موسيقيّة خبرنا نشاز معزوفتها في مسرح العالم.
بدت روسيا شبه معزولة إلا من لفيف حلفائها التقليديين المعدودين، وأما أوكرانيا فكسبت تعاطف الجميع، وعلى الرغم من الحوادث البينيّة، مُرِّها وحُلوها هنا وهناك، ظلت مأساة أوكرانيا سيّدة العناوين التي تصخب في قوائم الأخبار اليومية، والشرخ التراجيدي الذي يشغل حيّز المبالاة في ضمير العالم.
ثمّ حدث ما لم يكن متوقعا، باندلاع حرب إسرائيل الشّعواء على غزة بعد السابع من أكتوبر، إذ بادرت فيه "حماس" هذه المرة بالهجوم بمبرر المقاومة الدائمة. في ما أبَّدتْ إسرائيل حربها على القطاع منذ إعلانها بهمجيّة مُطلقة ولم تتوقف إلا في هدنتين خاطفتين، لتُضاعف من سعير الإبادة التي تستهدف المدنيين، الأطفال والنساء والشيوخ على حدّ سواء، ولم يسلم حتى النازحون من الغارات الهمجية، كما لم تستثنِ الجرحى والمرضى والرضّع في المستشفيات والمدارس والمخيمات.
تتواصل وقائع هذه الجريمة الكاملة بدعم كلّي من أميركا وحلفائها الأوروبيين، وبعكس تكتلهم مع الطرف الأضعف في حالة أوكرانيا ضد روسيا، تكتلوا على النقيض مع الطرف الأقوى، إسرائيل ضدّ غزة.
بهذه الوتيرة المختلّة، انحاز الغرب إلى الجلاد ضدّ الضحية، ولم يحفل ضميره بهزّة ولو طفيفة أمام مشهد الإبادة اليومية الذي تَثْقَلُ بحملِ ساعاته جثث الأطفال، في ما سيناريو إخلاء غزة من سكانها إما تقتيلا جماعيّا أو تهجيرا شاملا يمضي كما هو مُخطّط له بجلاء، ومن مُضحكات ديستوبيا 2023 بصدد الحربين المتزامنتين، أن يعلن رئيس أوكرانيا تضامنه المطلق مع إسرائيل/ الاحتلال ضدّ غزّة خاصّة- وكل فلسطين المحتلّة عامّة، من جهة، ومن جهة ثانية جرّمت أكثر من دولة أوروبية التضامن مع غزة، فمنعت المظاهرات وفصلت المواطنين عن مِهنهم كما في ألمانيا، بل وأخضعوهم لمحاكمات غرائبيّة والجريمة تدوينة شخصية تتعاطف مع أطفال القطاع، بل وبات حتى ارتداء كوفية فلسطينية فعلا إرهابيا خارقا!
بهذه الازدواجية الصفيقة في التعاطف، مال بندول ضمير العالم لأوكرانيا ضد روسيا، وبعكس ذلك مال بندوله لإسرائيل ضدّ غزّة.
وإسرائيل التي تتّكئ في وجودها على واقعة المحرقة النّازية، مُشهرة تُهم معاداة السامية في وجه كل من يعارضها، فبالأحرى أن يدين جرائمها المتواصلة، برهنت مرّة أخرى أنّ محرقتها في غزة أبشع ضعف أضعاف من مثيلتها في ألمانيا النّازية، وقد طمرت شعب القطاع تحت الأنقاض بوابلٍ مستفحلٍ من أطنان القنابل والصواريخ المتهاطلة بلا انقطاع.
إن كان أجداد الإسرائيليّين ضحايا تكبّدوا بشاعةَ المحرقة النّازية، فها أحفادهم قد تحوّلوا بقدرة قادر إلى نازيّين جُدد، بل مُضاعفين، عن سبق الإصرار والترصّد أمسوا جلادين يقترفون المحرقة ذاتها وأكثر ضدّ الضحايا الأبرياء من الفلسطينيّين. بدل أن يكون المُدان هي جريمة هتلر الوحشية، وبالتالي تصفية الحسابات التاريخية للجرح اليهودي مع محدثيه وأتباعهم في ألمانيا وغيرها من الأقطاب الأوروبية، تغدو فلسطين ويا للغرابة الفادحة هي كبش الفداء الذي سيُغسَل بدمه رماد وجوه يتامى هرتزل، وفي الآن ذاته هو الكبش الذي يجب أن يُذبح على عتبةِ إقامةِ كيانٍ إسرائيليّ وهميٍّ طارئ، على أنقاض وجودٍ فلسطينيّ أصليٍّ وجذري، هو صاحب الأرض، وقد سُخّر لطرده من أرضه كل ما يلزم المسرحية التراجيدية من أدوات عنصريّة نبغت أميركا وبريطانيا وحلفاء اللوبي الإسرائيلي في إخراجها على نحو فضائحيّ يندى له جبين التّاريخ الإنساني ( إن لم يدفن رأسه كنعامة في الرمل كحدّ أدنى مقابل فداحة المهزلة).
إن كان أجداد الإسرائيليّين ضحايا تكبّدوا بشاعةَ المحرقة النّازية، فها أحفادهم قد تحوّلوا بقدرة قادر إلى نازيّين جُدد
في ما تشارف 2023 على خاتمتها السّوداوية، تأبى أن تطبق فصلها الأخير دون أن يكون توقيعُ النّهاية دما مسفوكا في غزّة على مرأى عالمٍ بلغَ سقوط إنسانيته قعر الهاوية، ونأبى إلا أن نكتب عن غزة، لا كمُشيِّعين، بل كمناصرين أبديّين لعدالة القضية الفلسطينية.
وليكن، كيفما عُدّت كلّ كتابةٍ عن غزّة محض مرثية، وكيفما صُنّفَ الغضبُ ضدّ جريمة إسرائيل في غزّة محض صراخٍ في خلاءٍ من طرف أشقياء الكلمة والفن والثقافة والفكر، بل جميع الشعوب الحيّة تعاطفا مع أطفال غزة خاصة، ومدنيّيها عامة، وكيفما قيل عن مُناصرة القضية الفلسطينيّة العادلة محض رومانسية... وقس على ذلك من تمويه. مهما بدا كل هذا أخفّ من حبّة خردل في مكيال وحشيّة العالم الثقيلة، يظل وسيبقى أشرف من الصمت المطبق، الصمت اللاحكمة له أمام مقتل الأطفال على رأس كل ساعة. الصمت اللاضمير له أمام أطنان قنابل تدكّ المدارس والمستشفيات والمخيمات. الصمت اللاإنسانية له أمام مطر الصواريخ التي تلاحق حتى النازحين المهجّرين في طريقهم إلى المجهول.
هذا لأنّ القتلة بالفعل هم: إسرائيل، والقتلة بالصمت هم: الغرب وإعلامه! كما أفصح سابقا عن ذلك الروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو بشجاعةٍ في أكثر من محفل وحوار.