في مقالٍ له بعنوان "صراع الذاكرة والوجود" يشير الروائي السوري ممدوح عزّام إلى تأخر ظهور أحداث نكبة العرب الكبرى 1948 في الرواية العربية، فيقول: "صادف زمنُ النكبة الفلسطينية زمنَ ولادة الرواية العربية بشكلها الفنّي المكتمل، أو شبه المكتمل، وربما يكون هذا الأمر قد وضع الروائيّين العرب في مأزق. إذ كانت القضيةُ كبيرة وموجعة ومباغتة إلى حد أنك لا ترى في أي رواية واكبت النكبة زمنيا، أو صدرت بعد وقوعها بزمن قليل، مما يشير من قريب أو من بعيد إلى ما يحدث هنا في الجوار الفلسطيني، من قتل وتشريد وتهجير واقتلاع.وقد تأخّر ظهور الرواية الفلسطينية أو الرواية العربية التي كانت فلسطين محورا لها، أو وضعت إحدى الشخصيات في لحظات التساؤل عن المصير، إلى أوقات أخرى، بينما سادت في السنوات التالية للنكبة، بكائيات الشعر وأوجاعه".
لعل هذا ما حدا بالكثير من الروائيين العرب والفلسطينيين إلى استحضار فلسطين في رواياتهم بقوة بعد ذلك، ليبدأ ما يمكن اعتباره "التأريخ الروائي لفلسطين"، وهو الذي سنجده على امتداد مشاريع عدد من الروائيين العرب، بداية بغسان كنفاني الذي كتب أولى رواياته "رجال في الشمس" 1963، كما كتب دراسته المهمة عن أدب المقاومة في فلسطين (من 1984 حتى 1966)، كما تحضر أعمال يحيى يخلف، وجبرا إبراهيم جبرا إلى حدٍ ما، ولعل من أحدث التجارب في هذا الصدد سلسلة روايات "الملهاة الفلسطينية" لإبراهيم نصر الله، التي امتدت لتشمل نحو 250 عاما من التاريخ الفلسطيني حتى اللحظة الراهنة.
نتوقف هنا عند بعض الروايات التي تناولت تهجير الفلسطينيين، والنكبة عام 1948 وما تلاها من أحداث، أو "التغريبة الفلسطينية" كما سمّاها الروائي وليد سيف في عمله الدرامي الذائع الصيت، الذي عُرض في 2004 وحوّله إلى رواية من جزءين كبيرين في العام الماضي بالعنوان نفسه.
تمكن غسان كنفاني في فترة زمنية قصيرة نسبيا ومن خلال روايات قصيرة أيضا من عرض الحالة الفلسطينية في أوجهها المختلفة، لذا بقيت رواياته حاضرة حتى يومنا هذا
"عائد إلى حيفا": صدمة التهجير
يعتبر غسان كنفاني من أوائل من كتبوا عن القضية الفلسطينية، حتى بات اسمه مرتبطا بها، ولعل اغتياله في وقت مبكر عام 1972 على يد إسرائيل قد ساهم بشكل كبير في تعرف الناس عليه وعلى كتاباته.
في روايته "عائد إلى حيفا" يرصد كنفاني كيف هجّر الفلسطينيون في 1948 من خلال الخدعة الكبرى التي قام بها جيش الاحتلال الإسرائيلي عبر مكبرات الصوت التي تدعوهم الى ترك منازلهم والذهاب الى ابحر، فلما وصلوا إلى الميناء فوجئوا بزوارق صغيرة تنتظرهم هناك، ومن خلفهم بدأت طلقات الرصاص العنيفة، ولم يدركوا من أين يأتي الموت وكيف تكون النجاة، يترك سعيد ابنه خلدون في حيفا في ذلك الظرف الصعب، ويرحل مع زوجته صفية، وتمر 20 سنة ثم يعود ليتفقد ابنه، وتكون المفاجأة أن ابنه أصبح جنديا في جيش الاحتلال الإسرائيلي واسمه دوف، ويتذكر حينها أنه كان منع ابنه خالد من الانضمام الى المقاومة خوفا عليه، وعلى الرغم من قسوة المفاجأة على البطل وزوجته إلا أن كنفاني يبدو أنه تقصّد هذه الصدمة للقارئ، وهو يتوجه إليه بعد ذلك في ما يقوله سعيد لزوجته:
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق، وهكذا أراد خالد أن يحمل السلاح، عشرات الألوف مثل خالد لا تستوقفهم الدموع المفلولة لرجال يبحثون في أغوار هزائمهم عن حطام الدروع وتفل الزهور، وهم إنما ينظرون للمستقبل، ولذلك هم يصحّحون أخطاءنا، وأخطاء العالم كله. إن دوف هو عارنا، ولكن خالد هو شرفنا الباقي. ألم أقل لك منذ منذ البدء إنه كان يتوجب علينا ألا نأتي… وإن ذلك يحتاج إلى حرب".
على الرغم من قصر الرواية إلا أن كنفاني استطاع ببراعة أن يعرض فيها قضيته ووجهة نظره مكتملة، ولعل هذه من سمات براعة كنفاني، إذ تمكن في فترة زمنية قصيرة نسبيا ومن خلال روايات قصيرة أيضا من عرض الحالة الفلسطينية في أوجهها المختلفة، لذا بقيت رواياته حاضرة حتى يومنا هذا.
تتضمن "التغريبة الفلسطينية" مذكرات شديدة الدلالة والشاعرية لبطل الرواية علي الشيخ يونس الذي يجسد فيها مشاعر الفلسطيني وإحباطاته من الواقع وما فيه من قسوة
"التغريبة الفلسطينية": أيام البلاد وحكايا المخيم
يعود الروائي والسيناريست وليد سيف إلى الماضي، ليسرد أطرافا من تاريخ فلسطين القديم منذ ما قبل الاستعمار البريطاني، وذلك من خلال حكاية عائلة صالح الشيخ يونس البسيطة التي تعيش في واحدةٍ من قرى فلسطين، وتكون شاهدة على بدايات احتلال إسرائيل وأحداث الثورة الفلسطينية الأولى في 1936 وما بعدها، ويسرد بشكلٍ مفصل كيف عانت تلك العائلة من ويلات التهجير والتغريب في مخيمات اللجوء، ومحاولاتها المستمرة في المقاومة، كما تستعرض الرواية الطبقية الاجتماعية في تلك القرى وكيف تعاملت مختلف الفئات مع الاحتلال وكيف رضخ بعضهم للأمر الواقع المفروض بقوة السلاح، في حين بقي بعضهم الآخر متمسكا بخيار المقاومة على الرغم من قلة العتاد وضعف الإمكانات، كما ظهر في الرواية من يؤمن بالثورة ويسعى إلى تحقيق العدل والحرية من خلالها، ومن يتخذها وسيلة لتحقيق مصالحه الشخصية.
تستحضر الرواية في جزئها الثاني "حكايات المخيمات" وكيف كانت تلك الأماكن التي أوى إليها الفلسطينيون بعد طول الارتحال والتشرد هي الأماكن التي انطلقت منها حركات المقاومة والتخلص من الاحتلال، كما تتضمن الرواية مذكرات شديدة الدلالة والشاعرية لبطل الرواية علي الشيخ يونس الذي يجسد فيها مشاعر الفلسطيني وإحباطاته من الواقع وما فيه من قسوة، ومع ذلك ما تمتلئ به نفسه من آمال للغد وأحلامٍ يسعى الى تحقيقها إن لم يكن بنفسه ففي أبنائه من بعده.
يحكي إبراهيم نصر الله عن الحزن والألم ولكن بشكلٍ يتخفف فيه من الصراخ والدراما العالية، ويلجأ أكثر إلى التفاصل الإنسانية، ذلك أنه يهدف دوما لأن تكون حكاية فلسطين حتى وإن كانت حزينة متسامية عن تراجيديا الحياة اليومية
"طيور الحذر ": طفل يحكي عن الشتات
من بين روايات "الملهاة الفلسطينية" التي حرص فيها الروائي إبراهيم نصر الله على توثيق تاريخ فلسطين من الماضي إلى الحاضر، تأتي روايته "طيور الحذر" الصادرة عام 1995 ليحكي فيها من وجهة نظرٍ مختلفة حكاية شتات الفلسطينيين بعد عام 1948. ركز نصر الله في روايته على تناول مختلف للقضية الفلسطينية منذ البداية، فهو ليس مشغولا بتفاصيل الحكايات التاريخية التي يحكي عنها والتي تبقى في خلفية الرواية، لكنه يهتم برصد التفاصيل الشاعرية والإنسانية في حكايته، فمن مخيمات اللجوء التي يعيش فيها بطل الرواية (الطفل الذي لم يذكر اسمه) تبدأ الحكاية، ويستعرض فيها تاريخ الفلسطينيين في تلك الفترة من تاريخهم. بالتوازي مع هذه القصة الواقعية وما فيها من وجع وألم، يحكي الكاتب حكاية هذاالطفل مع الطيور التي يعلمها الحذر لكي تنجو من فخاخ الصيادين، وينتقل بنا السارد من حكاية فلسطين ومأساتها إلى تلك العلاقة الحائرة بين الحرية والعبودية، وكأنه بين هذا كله يرمز ولو بشكل غير مباشر الى فلسطين ومصيرها بين الاحتلال والمقاومة.
يجمع إبراهيم نصر الله، كما فعل في كثيرٍ من رواياته، بين رصد حكاية فلسطين وتفاصيلها وبين عالم روايته الخاص، وهو في كل رواية يحكي عن الحزن والألم ولكن بشكلٍ يتخفف فيه من الصراخ والدراما العالية، ويلجأ أكثر إلى التفاصل الإنسانية، ذلك أنه يهدف دوما لأن تكون حكاية فلسطين حتى وإن كانت حزينة، متسامية عن تراجيديا الحياة اليومية، ليصل إلى عقل القارئ وقلبه ويملك عليه أحاسيسه وعواطفه في الوقت نفسه.
تركز "باب الشمس" على حكاية يونس، لكن خوري يضع معها عددا من الحكايات الجانبية المهمة والدالة التي تمنح الرواية أبعادها الإنسانية والواقعية، وتجعلها كاشفة بشكل كبير عن المجتمع الفلسطيني
"باب الشمس": آلام التهجير وأحلام العودة
لم يقتصر تدوين تاريخ فلسطين وحكايات المقاومة والتهجير على الفلسطينيين وحدهم، إذ طالما كانت قضية فلسطين قضية العرب الأولى، لذلك وجدنا الكثير من الروائيين استطاعوا أن يعودوا إلى حكاياتها، ويرصدوا بدقة ما حدث فيها وكأنهم أبناء هذه الأرض، من هؤلاء الروائي اللبناني إلياس خوري الذي كتب أكثر من رواية عن القضية الفلسطينية، لعل أشهرها روايته "باب الشمس" التي وثّق وسرد فيها حكاية بطله يونس الأسدي الذي تتداعى حكايته وهو على سرير مرضه، وكيف كان حاضرا في النكبة وما بعدها، وكيف تحوّلت حياته إلى حلم وحيد بالعودة إلى قريته التي اضطر إلى تركها في فلسطين، وتتحول معه فلسطين من وطن يسعى إلى العودة إليه إلى حبيبة يتعرف اليها هناك في رحلات عودته المتقطعة التي يقوم فيها بعمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي، ويمزج خوري بين حكاية الوطن الضائع والحب وآلامه وآماله.
تركز الرواية على حكاية يونس، لكن خوري يضع معها عددا من الحكايات الجانبية المهمة والدالة التي تمنح الرواية أبعادها الإنسانية والواقعية، وتجعلها كاشفة بشكل كبير عن المجتمع الفلسطيني في تلك المرحلة التي سوف تمتد حتى اتفاق أوسلو 1993 الذي قضى من وجهة نظر الكثيرين على محاولات المقاومة ضد الاحتلال، فنتعرف من خلال الرواية الى شخصيات أخرى تحمل هم العودة بطرق مختلفة مثل الشيخ ركان عبود أو أحمد الجشي، وكيف أن ذلك الحلم سيبقى يراود كل فلسطيني خرج من أرضه حتى يواريه التراب، بل ويورثه لأولاده من بعده.
رصدت رضوى عاشور بشكل مفصل أطرافا من سيرة فلسطين منذ ما قبل نكبة 1948 مرورا بالمذبحة المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قرية طنطورة
"الطنطورية": من التهجير الى الانتفاضة
من مصر كانت رواية "الطنطورية" للروائية والناقدة المصرية الراحلة رضوى عاشور التي رصدت فيها بشكل مفصل أطرافا من سيرة فلسطين منذ ما قبل نكبة 1948 مرورا بالمذبحة المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قرية طنطورة في ذلك الوقت والصراع غير المتكافئ بين رجال القرية البسطاء وعصابات الصهاينة الذين جاؤوا ليحتلوا الأراضي ويقتلوا كل من فيها، ويجبروا من بقي منهم على النزوح. تأتي الرواية على لسان البطلة رقية التي عاشت بعض تلك الأحداث وسمعت بعضها الآخر من أمها وجيرانها، وكيف كانت المقاومة في ذلك الوقت بسيطة وبدائية، حتى انتقلت إلى الخليل ثم يصل بها الشتات إلى لبنان، وهناك يكون أفراد من عائلتها شهودا على مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982.
الجميل في رواية "الطنطورية" أن الأحداث السياسية والثورات وسيرة المقاومة والحروب تأتي جنبا إلى جنب مع سرد تفاصيل الحياة الفلسطينية العادية، وتبرع رضوى عاشور في تفاصيل العلاقات الإنسانية بين أبطال روايتها، ولا سيما تلك الأم النموذج رقية ودورها في العائلة، حتى تصبح جدة كبيرة، وتنتقل بها الحياة والأحداث إلى الكويت، لكن القضية الفلسطينية تبقى حاضرة ومؤثرة على العائلة وفي خلفيات المواقف على الدوام، حتى تحضر مريم البطلة الصغرى التي تنقلها وتنقلنا معها إلى مصر في 2000 وأحداث انتفاضة الأقصى التي أصبحت تتابعها من خلال شاشات التلفزيون في آخر أيامها، وتحكي للأبناء والأحفاد حكايات أجدادهم في فلسطين، وتربط الماضي والحاضر برباط وثيق حتى تزرع في نفوس الأجيال الجديدة آمال العودة الى فلسطين وأن مقاومة الاحتلال هي الحل الوحيد مهما طالت المفاوضات السياسية والمعاهدات الشكلية التي تدور بين العرب والإسرائيليين على أشلاء آلاف القتلى والمصابين.