قادني البحث عن التعليم لدى قدماء العرب، إلى حقيقة أنه كان في مجمله يدور في إطار الشعر، فالشعر هو السيرة والتراث والتاريخ والجغرافيا والدين والتربية والحكمة واللسان والتصوير، ومن يريد معرفة فنونهم وبطولاتهم وقصصهم، فلن يجد أفضل من الشعر حيزا لذلك، ولهذا شغف القدماء بتعليم أبنائهم الشعر، من خلال تحفيظهم القصائد التي تنتصر للحرية والفروسية، وحتى حين يكبر الطفل، فإنه يتحول إلى حفظ قصائد الفخر والرثاء والغزل.
ولعلّنا نجد ما يُعرف اليوم بالفن والنقد والجمال وعلوم الحياة، كله مبثوثا في الصور الشعرية التي حفلت بها القصائد العربية القديمة الخالدة، وخيالاتها المسبوكة في لغة عاطفية مؤثرة وبجودة عالية، فلم يكن الشعر مجرد قصيدة بوزن وقافية، بل مدرسة تعليمية مستمرة، يخلد فيها الأجود، فتستمر قولا يتحول إلى فعل سلوكي، لأجيال متعاقبة. فكلما كبر الطفل العربي القديم، نجد لديه ذخيرة لغوية يستطيع من خلالها مواجهة الحياة ومواقفها المختلفة، حتى الهجاء الذي نشأ كثير منه نتيجة الحروب والصراعات بين القبائل، يأتي الشاعر إليه منتصرا لنفسه بأناقة اللغة، وحتى إن لم يكن الابن أديبا يبدع القصائد الخالدة، فالأمل بأنه يملك الخزين اللغوي الذي يساعده على المضي في الحياة بحلوها ومرها، فيصبح الشعر منهجا تعليميا في مختلف المراحل العمرية، وحتى حين يكبر المرء فإنه يجد في الشعر المعاني الفلسفية عن المجهول واللا يقين والغيب.
لعلّنا نجد ما يُعرف اليوم بالفن والنقد والجمال وعلوم الحياة، كله مبثوثا في الصور الشعرية التي حفلت بها القصائد العربية القديمة الخالدة
وبطبيعة الحال، فإن الشعر يحتوي على غنى الخيال، وقد فسر قدماء العرب من خلاله واقعهم، وإذا كنا لا نجد في تلك الحقب مدارس نظامية، فسنجد ان التتلمذ كناية عن حصص من التأمل في أعماق الصحراء وآفاق النجوم، ومع الذهن الصافي يتلقى الفرد الشعر حفظا وحسا، ومع القافية يأتي الرويّ، ومع بحور الشعر في إيقاعاتها تأتي الأغنية، ليرتل الإنسان الشعر في ذهابه وإيابه، وتمضي به الحياة فصيح اللغة، مهذب التعبير، مرهف الحس، حتى تأخذ أذنه في التعلم بالتمييز بين الغث والثمين.
ويمضي بي البحث في كيفية استثمار القدماء تعاليم الشعر، فلم أجد المصادر إلا من خلال تحليل القصائد التي قرأتها، ويصبح الاستنتاج في أن الهدف هو إنشاء الطفل وهو يتعرف على تصنيف الشعر بالفطرة، في مراحله التعليمية والتربوية العمرية، حيث يتعرف صغيرا إلى أدب الرثاء الذي غالبا هو إنساني، فيه من الوفاء والأمانة من خلال وصف الميت، والعكس أيضا في مديح الإنسان الحيّ حيث يعمل هذا النوع من الشعر على تطييب القلوب وتقاربها، وهي من أهم أنواع التعليم والتربية الإنسانية، وكلما كبر يتعرف على قصائد الحمد والوصف في نشر الفضائل مثل الكرم والنخوة، وهما من معاني الثناء، ولأن الشعر يستعمل الصور، نجد أنه من أهم وسائل تنشيط الخيال، حيث تمنح الصورة الشعرية، التفسير وفهم التبرير من خلال الرمزيات العالية في القول، مع إدراك المقصود منه، فالشعر يخلق حسا وفهما معا وهو أقرب إلى الفلسفة (أي الحكمة قديما)، وهي خلاصة تجارب الشعراء في قصائد خلدها الزمن.
نستشفّ أن الشعر كان يبني شخصية الفرد منذ طفولته، وكان بمثابة منهل تعليمي لعلوم إنسانية ومعارف ومهارات ومبادئ ومعتقدات وعادات، بالإضافة إلى قيم الشجاعة والتربية، مع صقل المشاعر وتهذيب النفس والسلوك، وهذا كله يجعل منه غرسا وإصلاحا وسبيلا إلى تعلّم صناعة القرار، ولذلك فمن المهم أن نسعى إلى تجديد حضور الشعر في حياة الأجيال، بقدر ما من المهم أن يظلّ الشعر مواكبا لتطوّرات الحياة حتى يظلّ مدرسة تحافظ على علاقة تلك الأجيال بلغتها وبقيمها الحضارية الراسخة.