إنها لميزة تحسب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الباقي في السلطة، أن يواصل العمل على افتراض أنه سيخرج من هذا الصراع منتصرا في نهاية المطاف، وذلك على الرغم من النكسات العديدة التي تعرض لها خلال الحرب التي دامت 21 شهرا في أوكرانيا.
لم يمض وقت طويل على الحرب حتى توقع معظم الخبراء العسكريين أن المؤسسة العسكرية الروسية سوف تعاني من هزيمة مذلة، وأن هذه الهزيمة ستؤدي إلى إزاحة بوتين من السلطة.
وبعد أن تمكنت أوكرانيا بقتالها العنيف في أواخر العام الماضي، من استعادة السيطرة على المدن الرئيسة مثل خاركيف في شمال شرقي أوكرانيا، وخيرسون جنوبا، بات ينظر إلى ما سماها بوتين "العملية العسكرية الخاصة" في أوكرانيا على نحو متزايد على أنها سوء تقدير خطير وقعت فيه القيادة الروسية. ويقدر أن الحرب أزهقت حياة 200 ألف جندي روسي تقريبا واستهلكت إمكانات القوات المسلحة الروسية، إذ تشير التقارير إلى أن الجيش الروسي فقد قرابة نصف ما كان يملكه من عتاده الثقيل قبل الحرب.
لا شك أن سلطة بوتين بلغت الحضيض إثر محاولة الانقلاب الخرقاء التي شنها هذا الصيف محميّه السابق يفغيني بريغوجين، رئيس مجموعة "فاغنر" القوية، التي لعبت دورا مركزيا في العمليات الروسية القتالية في أوكرانيا.
وفي حين أن محاولة بريغوجين للإطاحة بالقيادة العسكرية الروسية لم تسفر عن شيء يذكر، إذ قُتل زعيم "فاغنر" لاحقا في حادث تحطم طائرة غامض في أغسطس/آب، فإن الاضطرابات السياسية التي أثارتها في موسكو أوحت بأن الكرملين غير قادر على توفير قيادة فعالة في أوكرانيا.
ومع ذلك، فبعد مضي أربعة أشهر تقريبا على وفاة بريغوجين، ثمة دلائل لا لبس فيها على أن مدَّ الصراع بدأ يتحول لصالح روسيا، وهو تحول لم يكن من الممكن تصوره قبل أسابيع فقط.
الهجوم الأوكراني لم يحقق سوى مكاسب مناطقية متواضعة خلال الأشهر القليلة الماضية
علاوة على ذلك، فإن معظم الفضل في تحويل دفة الصراع لصالح روسيا ينبغي رده إلى الزعيم الروسي نفسه، الذي تغلب على التحديات التي واجهها هذا الصيف لإعادة تقوية المجهود الحربي لموسكو.
كانت الخطوة الأولى التي اتخذها بوتين هي تطهير الجيش الروسي في رتبه العليا، التي اشتبه أن لها علاقات وثيقة مع بريغوجين وأتباعه المنشقين في مجموعة "فاغنر". ومن بين الضباط البارزين الذين أعفوا من القيادة كان الجنرال سيرغي سوروفيكين، الذي خدم إلى جانب بريغوجين أثناء النزاع في سوريا كما كان مسؤولا عن إنشاء تشكيلات دفاعية روسية هائلة في أوكرانيا.
وفي الواقع، فإن ما يسمى بـ"خط سوروفيكين" أثبت أنه شكل عائقا هائلا أدى دورا مركزيا في إحباط الهجوم الأوكراني المضاد الذي انطلق في يونيو/حزيران وطال انتظاره، وسط توقعات مرتفعة بأنه سيمكن الأوكرانيين من توجيه ضربة قاضية للغزاة الروس.
لعل سوروفيكين وغيره من كبار حلفاء بريغوجين السابقين ما عادوا يساهمون في المجهود الحربي الروسي، إلا أن ما قاموا به من استعدادات قبل عزلهم للدفاع عن المواقع الروسية في أوكرانيا أثبتت فعاليتها العالية، حتى إن الهجوم الأوكراني لم يحقق سوى مكاسب مناطقية متواضعة خلال الأشهر القليلة الماضية.
يضاف إلى النجاح في إحباط جهود أوكرانيا لاستعادة ما احتل من أراضيها، فإن تحركات بوتين لوضع الاقتصاد الروسي على أساس الحرب جنت ثمارها أيضا؛ إذ حول عائدات النفط الروسية الضخمة لعسكرة الاقتصاد الروسي، فأدى ذلك إلى زيادة كبيرة في إنتاج الأسلحة. كما وافق بوتين مؤخرا على زيادة 170 ألف جندي إلى قوام القوات المسلحة الروسية، وهو ما يشير إلى أنه لا يعتزم تقليص حملته العسكرية في أوكرانيا. بل على العكس من ذلك، فإن تحركات الجيش الروسي الأخيرة وجهوده الحثيثة للاستيلاء على أهداف استراتيجية رئيسة مثل بلدة أفدييفكا الشرقية في منطقة دونباس، تشير إلى أنه سيستمر في حملته لفترة طويلة مستقبلا. وقد حذر أوليكسي دانيلوف، رئيس مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، من أن بوتين قد يأمر بالتعبئة الكاملة بعد إجراء الانتخابات الرئاسية الروسية العام المقبل في مارس/آذار.
كما تزامن انتعاش آمال روسيا في أوكرانيا مع اندلاع الصراع في غزة بين إسرائيل و"حماس"، وهو ما أدى على نحو حتمي إلى صرف الانتباه بعيدا عن أوكرانيا. ومع تركيز الاهتمام العالمي على الأزمة الإنسانية التي تتكشف في غزة، أصبحت قدرة التحالف الغربي في الحفاظ على دعمه لأوكرانيا كما في السابق موضع مراجعة مجددا.
فشل الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في تحقيق أي تقدم ملموس أدى إلى زيادة الضغوط على زيلينسكي
وتشير التقارير إلى أن ألمانيا والولايات المتحدة تعملان معا، بالحد من شحنات الأسلحة الغربية لأوكرانيا، للضغط على كييف سعيا منهما لإقناع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بأن يدخل في محادثات السلام لإنهاء الأعمال العدائية.
ومن المؤكد أن فشل الهجوم المضاد الذي شنته أوكرانيا في يونيو/حزيران الماضي، في تحقيق أي تقدم ملموس، أدى إلى زيادة الضغوط على زيلينسكي، الذي ظل متحديا على الرغم من عدم إحراز أي تقدم على أرض المعركة.
واعترف الزعيم الأوكراني في مقابلة أجريت معه مؤخراً مع شبكة "بي بي إس" الأميركية، بأن الصراع وصل إلى مرحلة جديدة، حيث من المتوقع أن يؤدي فصل الشتاء إلى تعقيد القتال بعد فشل الهجوم المضاد الصيفي في تحقيق النتائج المرجوة بسبب النقص المستمر في الأسلحة والقوات البرية.
وقال زيلينسكي: "لدينا مرحلة جديدة من الحرب؛ الشتاء عموما هو مرحلة جديدة من الحرب".
وعندما سئل عما إذا كان راضيا عن نتائج الهجوم المضاد، أعطى إجابة معقدة، حيث قال: "انظر، نحن لا نتراجع، أنا راض. نحن نقاتل ضد ثاني (أفضل) جيش في العالم، وأنا راضٍ"، في إشارة إلى الجيش الروسي. لكنه أضاف: "نحن نخسر الناس، أنا لست سعيدا. لم نحصل على كل الأسلحة التي أردناها، لا أستطيع أن أكون سعيدا، لكن لا أستطيع أن أشكو كثيرا أيضا".
إلا أن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، هو من قدم تقييما أكثر واقعية لتقدم الحرب وحذر من أن التحالف العسكري الغربي يجب أن يكون مستعدا للأخبار السيئة من الجبهة الأوكرانية بينما تواصل كييف الدفاع عن نفسها ضد الغزو الروسي الواسع النطاق.
وقال ستولتنبرغ لقناة "إيه آر دي" الألمانية: "إن الحروب تتطور على مراحل. وعلينا أن ندعم أوكرانيا في الأوقات الجيدة والسيئة... علينا أيضا أن نكون مستعدين للأخبار السيئة".
ومن المؤكد أن اعترافا كهذا من رئيس منظمة يفترض أنها أقوى تحالف عسكري في العالم سيلقى استحسانا كبيرا في الكرملين، مما يمنح بوتين الثقة بأن روسيا ما دامت ثابتة على هذا المسار فسوف يتمكن من إعلان النصر في نهاية المطاف.