تاريخ معاد
لا تنطبق مقولة "التاريخ يعيد نفسه" على حدث بقدر ما ينطبق على ما جرى في السابع من أكتوبر، فهذه الهجمات أعادت إلى الأذهان عملية "ميونخ"، وهو ما تجلى، دون أي لبس، في تصريحات رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شاباك) رونين بار الذي لوّح بملاحقة (حماس) في "كل مكان"، "والقضاء عليها حتى لو استغرق الأمر سنوات"، مستذكرا رد فعل إسرائيل بعد "عملية ميونخ".
وفي تسجيل بثه الإعلام العبري، قال بار "حدّد لنا مجلس الوزراء هدفا، هو القضاء على حماس. هذه ميونخ الخاصة بنا. سنفعل ذلك في كل مكان، في غزة وفي الضفة الغربية وفي لبنان وفي تركيا وفي قطر. قد يستغرق الأمر بضع سنوات، لكننا مصممون على تنفيذه".
بهذا السيناريو الاستخباري الصريح، أغلق المسؤول الإسرائيلي الباب أمام التكهنات، ولم يدع أي فرصة للمستمع كي يقارنها بسيناريو ميونخ، فهو نفسه أشار إلى تلك العملية الانتقامية التي أطلقتها رئيسة الوزراء الإسرائيلية، آنذاك، غولدا مائير والتي عرفت بـ "غضب الرب"، حين أمرت بتشكيل "فرقة اغتيال" لتشرع في التصفيات التي طاولت 9 قياديين فلسطينيين من بين 11 شخصية كانت تستهدفهم الخطة، والرقم 11 هنا يحمل دلالة رمزية، ذلك أنه يشير إلى رقم قتلى الرياضيين الإسرائيليين في ميونخ.
بدأت الخطة الإسرائيلية باغتيال وائل زعيتر، ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في روما، في أكتوبر/تشرين الأول من عام 1972، ثم استُهدف محمود الهمشري، ممثل المنظمة في باريس، في ديسمبر/كانون الأول من عام 1972، وخلال الأشهر التالية اغتيل آخرون بينهم باسل الكبيسي وحسين البشير ومحمد بودية في عواصم مختلفة، فضلا عن عملية إنزال برمائية لمجموعة إسرائيلية في بيروت، هاجمت أحد المقار الفلسطينية حيث قتل محمد يوسف النجار وكمال عدوان وكمال ناصر. وتوقفت الخطة في يوليو/ تموز من عام 1973 بسبب ضغوط أوروبية عندما قتلت فرقة الاغتيالات الإسرائيلية بالخطأ رجلا مغربيا في مدينة ليلهامر بالنرويج لمجرد أن ملامحه تشبه ملامح القيادي البارز في حركة فتح علي حسن سلامة، الذي ظل على رأس قائمة المستهدفين حتى تاريخ اغتياله في يناير/كانون الثاني 1979 بسيارة مفخخة في بيروت.
ليس مجرد "آكشن"
أفلام كثيرة تناولت عملية ميونخ وما أعقبها من انتقام إسرائيلي، غير أن معظم هذه الأفلام أظهرت انحيازا لهذا الطرف أو ذاك، وذلك بحسب سياسة صناعها ومنتجيها، ووسط هذا الاستقطاب الفني الحاد بين أفلام تعكس الرواية الرسمية الإسرائيلية، وأفلام مماثلة تجسّد وجهة النظر الفلسطينية، جاء فيلم سبيلبرغ ليقول شيئا مختلفا، ويحافظ على مسافة واحدة من الطرفين من دون أن يتبنّى سردية دون أخرى، فما جرى في ميونخ أبعد من مجرد اختزاله في ثنائية الخير والشر، وهو ما أوضحه سبيلبرغ حين قال إنه لا يستطيع تقديم إجابات بسيطة عن قضايا معقدة.
يتابع سبيلبرغ في فيلمه، عبر سيناريو شديد الاتقان كتبه توني كوشنير وإيريك روث، استنادا إلى كتاب "الانتقام" للصحفي المجري جورج جوناس (1934 – 2016) ، فرقة الاغتيالات الاسرائيلية بقياد عميل الموساد أفنير كوفمان (يقوم بدوره الممثل الأسترالي إريك بانا) وهم يلاحقون القادة الفلسطينين في هذه العاصمة الأوروبية أو تلك انتقاما لعملية ميونخ.
وكان من الممكن أن يتحوّل الفيلم، الذي تبلغ مدته 164 دقيقة، إلى مجرد فيلم بوليسي تشويقي و"آكشن"، لكن صاحب "إنقاذ الجندي رايان"، استطاع برؤيته الفنية الصائبة أن ينقذ شريطه من هذا المنحى التبسيطي، وسار به نحو فضاءات أعقد تحاول تلمس الجانب الخير لدى البشر، حتى وهم ينفذون "أفظع الاغتيالات".