حضور المرأة وغيابها
-
باستثناء وجودك، تكاد تغيب المرأة في "بوّابات أرض العدم" ويظهر عالم من الرجال المقاتلين في أحوال تبدو أكثر قسوة؟
لأن المعركة كان يقوم بها الرجال فيما النساء كنّ يصنعن الحياة الحقيقية واليومية بكلّ تفاصيلها. وقتها كنت مصرّة على فهم وتفكيك ماهية هؤلاء المجاهدين وماذا يفعلون. بدأت النساء بالاختفاء من الشارع ولم يكن هناك سوى المقاتلين في الشوارع والخطوط الأمامية، وهذا لا يعني أنهن لم يكن موجودات تماما لكنهن لم يحملن أسلحة ولم يقاتلن غالبا.
-
يمكن أن نلاحظ أيضا غياب معظم الخريطة السورية في قصص هذا الكتاب، على عكس كتاب "تقاطع نيران" الذي يسرد يوميات بداية الثورة السورية في دمشق، دوما، درعا، حلب، حماة، حمص، بانياس، المرقب، جبلة، القامشلي، عامودا، اللاذقية وغيرها. كيف تقرئين هذا التحول في ضوء الانقسامات التي حدثت مع رفع الشعارات الطائفية والجهادية؟
- هذا صحيح تماما، لأنني في "تقاطع نيران" كنت أستطيع التنقل وإن كان في بعض الأحيان بطريقة سرّية وباستخدامي هويّات مزوّرة، لكن في "بوّابات أرض العدم" انحصرتُ في إدلب ولم أستطع الدخول إلى المناطق التي تحت سيطرة الحكومة حيث صارت الحرب أعنف والحواجز أكثر. وفي 2013 بدأ ظهور "داعش" وكان الخوف منه ومن إعداماته للعلمانيين أو أي شخص لديه رؤية مختلفة.
-
هناك أيضا تحوّل في العنف، أحدهم يترحّم على "أيّام طيران الميغ، وأيّام قصف الكيماوي" التي بدت له "أرحم من البراميل التي تدمّر كلّ شيء"؟
نعم، لأن البراميل لا تتيح إمكانات أخرى للنجاة فهي تقتلك تماما حتى وإن كنت في قبو، وهو اختراع للموت. لقد شهدت هذا الرعب حين كنت هناك، وأذكر أن خمسا وعشرين قذيفة من هذه البراميل سقطت فوق رؤوسنا خلال ساعات حين كنا في سراقب في شهر أغسطس/آب سنة 2013.
-
ذكّرتني الحرب الأخيرة على غزة بحوادث جاءت في تدوينك ليوميات الثورة السورية إذ كان أنصار النظام يدّعون أنهم قبضوا على ثلاثة ضباط إسرائيليين وأحيانا يطلبون من المعتقلين القول إن الثوّار كانوا يرفعون صورا لقادة إسرائيليين. كيف تنظرين إلى إشكالية العلاقة بين النظام والقضايا القومية التي لها بعد عاطفي لدى الناس؟
أعتقد أن نظام الأسد اشتغل على استخدام المشاعر القومية لدى السوريين ولدى العرب، فكانت العمالة لإسرائيل تهمة دائمة لأي معارض أو مخالف وفاضح لنظامهم وفسادهم. وكانت هذه التهمة كفيلة بإبعاد التعاطف الإنساني عن هؤلاء. ما يحدث في غزّة يوضّح هذا التواطؤ الموجود منذ سبعين عاما. استخدم اسم فلسطين كأداة قامعة، وبحجّة العداء لإسرائيل طمست كلّ أشكال الديموقراطية والحرّية والمطالبة بالعدالة، وقد كانت إشاعة تهمة العمالة من أكثر الأسلحة التي استخدمت ضد الثوّار في بداية الثورة السورية.
المؤسف في الأمر أننا لا نتعلّم من تجاربنا ونعرف أن المشكلة أيضا تكمن في عدم وجود ديموقراطية. فإسرائيل كانت الشمّاعة التي ألقوا عليها كلّ مصائبهم ولجموا بها الشعوب العربية التي هي في الحقيقة شعوب وطنية وقوميتها عالية وعلاقتها بفلسطين علاقة مصيرية.
مقاومة النسيان
-
في كتاب "تسع عشرة امرأة" تجسد النساء في قصصهن الذاكرة السورية في زمن الحرب وقبله. كيف يمكن أن تتحقّق الكتابة في حربها ضد النسيان، حسب قولك في مقدّمة الكتاب؟
اخترت سردية النساء لأنّها الأقدر على تفكيك العنف المركّب الذي عشناه في مجتمعنا. لأن النساء واجهن عنفا كوحش متعدد الرؤوس، يتمثل في الديكتاتورية والمجتمع الذكوري العنيف والجماعات الجهادية المتطرفة إلى جانب العنف المخفي الذي مارسه رفاقهن الذكور في الثورة. لذلك كنّ أكثر نقدية لما حصل في الثورة. والعمل ضد النسيان يكون أيضا بإعادة تفعيل دور الكلمة ودور عرض أجزاء من الحقائق أو البحث عن الحقيقة. كما أن العمل ضد النسيان هو العمل على فكرة إحياء العدالة، فهن عملن من أجل العدالة للآخرين ومن أجل حقوقهن. وما عملتُه هو نقل كلماتهن وتجاربهن فقط. وأعتقد أننا بهذا العمل يمكن أن نحدّ من لامبالاة الآخرين ونشير إلى أهمية النظر إلى آلام الآخرين والتطلع إلى عالم أكثر عدالة. مع ذلك يتولد عندي سؤال عميق ومؤلم الآن عن جدوى الذاكرة ومقاومة النسيان إذا لم يكن هناك عدالة.
-
كيف تنظرين الآن إلى ما جرى، هل قمت بأيّة مراجعة بعد كلّ ما صار؟
ما جرى كانت ثورة تطالب بالقليل من الإصلاحات والمبادئ الإنسانية. وأنا طبعا أقوم بالمراجعة، وأعترف حقيقة بأنّنا هزمنا، لكني لست نادمة إطلاقا، فكلّ ما عملته هو أنني وقفت إلى جانب الناس المظلومين. ومهما عملنا أو ما كنّا سنعمله فقد كان هناك ما هو أكبر منّا جميعا، فنحن أصحاب كلمات، ونشاطنا كان سلميا، وعملنا هو مد التعاطف الإنساني عبر هذه الكلمات.
-
هل يمكن القول إنّكِ تصالحتِ مع المنفى والبقاء فيه بعدما كنّا نسمع ونقرأ تصريحاتك التي تقولين فيها إنّ بقاءك خارج سوريا مؤقت؟
نحن غرباء حتى ونحن في أوطاننا، لكنّ المنفى بالمعنى المتعارف عليه لن يكون هناك أي تصالح معه. فالمنفى هو نفسه أيضا تغيّر بعد الثورة الرقمية، ولم يعد هو نفسه الذي تحدّث عنه ادوارد سعيد. وقد توقفت عن القول إن وجودي خارج سوريا مؤقت، لأنني لم أعد متأكّدة من أنني أستطيع العودة إلى سوريا في أيّ يوم من الأيّام. كان المنفى بالنسبة لي هو توقفي عن كتابة الرواية لسنوات كما هو نفيي من أطر اجتماعية عائلية أو طائفية عدة كنت أنتمي إليها بحكم المولد. المنفى الأخير بالخروج من سوريا ترافق مع حال سحق جماعي لهويّة وطنيّة كاملة.