واللافت أن إسرائيل، التي فاوضت على الصفقة مع "حماس"، وكان السنوار السجين هو صلة الوصل مع قيادات الحركة لإتمام الصفقة، لم تكن تعارض أن تشمل الصفقة السنوار الذي كان قد ظهر خلال سجنه في حوار مع قناة إسرائيلية يتحدث بالعبرية بطلاقة، وبدا مرنا في أجوبته، وهو ما رأت فيه تل أبيب أن سنوات السجن قد نجحت في ترويض السنوار، وإن الإفراج عنه لن يشكل "صداعا في الرأس" لها. وذهبت تحليلات بعد السابع من اكتوبر إلى أن السنوار نجح في "خداع" إسرائيل، إذ تحول من سجين مسالم وطيع، إلى قيادي "شرس" يقض مضجع الدولة العبرية، فبعد الإفراج عنه، سرعان ما أصبح قياديا في "كتائب عز الدين القسام"، الذراع العسكرية لحركة "حماس"، فهو من أعضاء "الحركة الاوائل وكان قد أسهم في تشكيل جهاز أمنها الخاص المعروف اختصارا بـ "مجد".
استفاد السنوار، الذي أدرجته واشنطن في 2015 على لائحتها السوداء "للإرهابيين الدوليين"، من معرفته بالسجون الإسرائيلية، التي حصل عليها خلال السنوات الطويلة التي قضاها في زواياها، حيث تعلم العبرية وعرف ذهنية قادة إسرائيل وطريقة تفكيرهم، مما أعطاه نفوذا بين القيادات العسكرية في الحركة، وهو ما تجسد فعليا في عام 2017، حين انتُخب رئيسا للمكتب السياسي للحركة في قطاع غزة، خلفا لاسماعيل هنية.
الشوك والقرنفل
ما تغفله التقارير عن سيرة هذا الرجل، هو أنه صاحب نص أدبي عنوانه "الشوك والقرنفل" كان قد شرع في كتابته خلال فترة احتجازه في سجن بئر السبع الإسرائيلي، وأنهاه في العام 2004، أي قبل نحو سبع سنوات من إطلاق سراحه، وفي ذات العام كان قد خضع، وهو سجين، لعملية جراحية "دقيقة" في المخ، وربما كان ذلك سببا في التوقف عن الكتابة.
ورغم أن القراءات نعتت النص بـ"الرواية"، غير أن هذا التصنيف يبدو مبالغا فيه، ذلك أن النص يفتقر إلى مقومات الرواية وشروطها من حبكة فنية وتطور للشخصيات، وطريقة السرد، ناهيك عن أن النص لا يأبه كثيرا بالبلاغة اللغوية والجمالية، وهي كذلك إحدى مقومات الرواية، رغم أنه مكتوب باللغة العربية الفصحى المخففة، مع بعض العبارات والتعابير باللهجة العامية الفلسطينية.
تبعا لذلك، فإن هذا النص هو أقرب إلى "السيرة الذاتية" غير الموثقة أو المذكرات أو الاعترافات، خطه قلم سجين كان يملك فائضا من الوقت، تماما كأولئك السجناء الذين يزجون الوقت بصنع أشكال من الخرز، مثلا، لكن السنوار اختار الكتابة سبيلا إلى تحمل وطأة السجن وأيامه الطويلة التي انعكست سلبا على بنية النص الذي جاء سائبا ومسترسلا بلا ضوابط أو قيود، مع الكثير من التكرار والجمل النافلة العادية، ويمكن اختصار هذا النص المكون من 340 صفحة إلى النصف، وذلك لن يغير من مضمونه شيئا، بل سيزيد في تماسكه وجماليته، ولا يخلو النص كذلك من بعض الأخطاء الطباعية ومن بعض التراكيب اللغوية الملتبسة.
وبمعزل عن الجوانب الفنية والجمالية لهذا النص، ما الذي يمكن أن نعثر عليه بين سطوره حول شخصية كاتبه السنوار؟
يمكن، بسهولة، تبين ذلك التشابه بين سيرة بطل الرواية والراوي بضمير المتكلم أحمد في هذا النص، وبين سيرة السنوار نفسه، بل أن هذا التشابه لا يقتصر على السنوار فقط، فما عاشه وعايشه أحمد، بطل "الشوك والقرنفل"، يكاد يتقاطع مع سيرة جيل كامل من الفلسطينيين من مجايلي السنوار ممن ولدوا مطلع الستينات، وعاشوا في المخيمات بعد أن هجرت عائلاتهم من أراضيها وقراها وبلداتها، خلال النكبة، فتوزع أفرادها في المخيمات الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، فضلا عن مخيمات في دول الجوار كلبنان والأردن وسوريا. وهو ما يشير إليه السنوار في استهلاله لهذا العمل، إذ يقول "هذه ليست قصتي الشخصية وليست قصة شخص بعينه، رغم أن كل أحداثها حقيقية، كل حدث منها أو كل مجموعة أحداث تخص هذا الفلسطيني أو ذاك. الخيال في هذا العمل فقط في تحويله إلى رواية تدور حول أشخاص محددين ليتحقق لها شكل العمل الروائي وشروطه، وكل ما سوى ذلك حقيقي، عشته وكثير منه سمعته من أفواه من عاشوه على مدار عشرات السنوات على أرض فلسطين الحبيبة"، وهو يهدي العمل إلى "من تعلقت أفئدتهم بأرض الإسراء والمعراج من المحيط إلى الخليج، بل من المحيط إلى المحيط".
شقاء المخيمات
بطل هذا النص عاش في مخيم الشاطئ بقطاع غزة، وتفتح وعيه على الدنيا مع نكسة يونيو/ حزيران 1967 ، وهو التاريخ الذي يبدأ به هذا النص ليشرع في تقديم عرض كرونولوجي واف عن تطورات القضية الفلسطينية وتحولاتها وانعطافاتها وتشعباتها ومحطاتها البارزة، من "أيلول الأسود" إلى حرب أكتوبر، فالحرب الأهلية اللبنانية، والاجتياح الإسرائيلي للبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، وزيارة الرئيس المصري محمد أنور السادات لإسرائيل، وصولا إلى الانتفاضة الأولى (1987 ـ-1993) واتفاقات اوسلو (1993) ومقتل إسحق رابين وحتى بدايات الانتفاضة الثانية (2000 -2005) التي تشكل خاتمة النص.
لا يتعمق الكاتب كثيرا في تحليل هذه الأحداث وقراءتها، بقدر ما يرصد تداعياتها وتأثيراتها على مخيم الشاطئ حيث كان يعيش الطفل أحمد وسط أسرة مؤلفة من ثلاثة أطفال وبنتين هو أصغرهم. يسكنون دارا بسيطة في المخيم، ولعل ما يذكره الطفل وهو في الخامسة من عمره، يختزل تاريخا طويلا من المعاناة، إذ يدون في الصفحة الأولى: "مرارا وتكرارا تدفقت مياه سيول الشتاء إلى ساحة دارنا الصغيرة ثم تدفقت إلى داخل هذه الدار التي تسكنها عائلتنا منذ بدأ الحال يستقر بعد أن هاجرت من بلدة الفلوجة في الأراضي المحتلة عام 1948 وفي كل مرة يدب الفزع بي وباخواني الثلاثة واختيّ، وخمستهم كانوا يكبرونني سنا، فيهب أبي وأمي إلينا ليرفعونا عن الارض ولترفع امي الفراش قبل ان تبلله المياه،.. مرات عديدة استيقظت ليلا على أيدي أمي تزيحني جانبا وتضع على فراشها الى جواري مباشرة طنجرة من الالمنيوم او صحنا من الفخار الكبير لتسقط فيه قطرات الماء، التي تتسرب من التشقق في سقف الكرميد ( هكذا مكتوب) الذي يغطي تلك الغرفة الصغيرة، طنجرة هنا، وصحن هناك، وإناء ثالث في مكان اخر. احاول في كل مرة النوم، فأفلح احيانا، ثم استيقظ على صوت قطرات الماء وهي ترتطم بما تجمع من مياه في ذلك الإناء، بصورة منتظمة ، وعندما يمتلئ الوعاء يصبح رذاذ الماء يتراشق عليه مع كل قطرة، فتهب أمي لتضع وعاء جديدا مكان الذي امتلأ وتخرج لتسكبه خارج الغرفة".