عادت الحرب على غزة بعد سبعة أيام من هدن متتالية تعذر تمديدها. واستعادت خلالها إسرائيل 88 إسرائيليا و22 أجنبيا. تؤكد وتيرة القصف الإسرائيلي المُستأنف على الأحياء السكنية من البر والبحر والجو أن إسرائيل طوت صفحة التفاوض إلى أجل غير مسمى قبل الانتهاء من تبادل الأسرى، وأنها سارعت إلى استئناف عمليتها العسكرية بما تبقى لها من قدرة على تسويقها داخليا بعد أن فقدت تأييد الرأي العام الدولي الذي اشتدت مطالباته بتحويل الهدنة إلى وقف إطلاق نار دائم.
ربما بدا واضحا لإسرائيل وقبلها الولايات المتحدة أن الهدن الإنسانية التي يجري التفاوض حولها ليست الإطار المناسب لطرح مستقبل قطاع غزة وماهية السلطة الجديدة وأدوار الجهات الضامنة العربية والدولية للصيغة المرتقبة. وربما يستلزم الموقف توسيع دائرة الوساطة العربية بحيث لا تقتصر على جمهورية مصر العربية ودولة قطر. لقد اقتضى كل ذلك العودة إلى الميدان فانفجر الصراع لأسباب أميركية قبل أن تكون إسرائيلية.
حاولت واشنطن الاختباء خلف همجية بنيامين نتنياهو، إذ سارع وزير خارجيتها أنتوني بلينكن للانضمام إلى المجلس الوزراي المصغر "كابينيت الحرب" الذي اجتمع قبيل انتهاء الهدنة. وقد ظهر أن القيود الأميركية على العملية العسكرية لجهة حماية المدنيين وتحديد بقعة العمليات والأهداف المراد تحقيقها لم تكن سوى تأييد واضح لاستئناف القتال بل دعوة صريحة له. وفي المقابل أتى الرد الإسرائيلي بتقسيم القطاع إلى مربعات ومطالبة الفلسطينيين بالانتقال من مربع إلى آخر وفق أوامر الجيش الإسرائيلي متناغما مع السذاجة الأميركية المفتعلة.
ضبابية أم هلوسة؟
يترافق انفجار الموقف الميداني بشكل جنوني في غزة وسقوط المئات من المدنيين مع غياب أميركي واضح عن المنطقة بما يختلف تماما مع المواكبة الأميركية الحثيثة التي رافقت المرحلة الأولى للقتال والتي هدفت واشنطن من خلالها إلى تحذير القوى الإقليمية من عواقب التدخل وتوسيع دائرة الحرب. وفيما يشبه ذر الرماد في العيون ومحاولة جذب الأنظار نحو اهتمامات أميركية تحاكي ضبابية تريد واشنطن تعميمها على المشهد، اتخذ الحراك الأميركي الإسرائيلي مجموعة من الديناميات المتناقضة التي تنأى عن أولوية التوصل إلى وقف لإطلاق النار وتقصي العملية السياسية:
أولا، حول التمسك بحماية المدنيين: في محاولة للتأكيد على المواقف السابقة لكل من الرئيس الأميركي جو بايدن ووزير الخارجية بلينكن، خاطب وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، إسرائيل حول ضرورة حماية المدنيين في غزة، واصفا إياهم بأنهم "مركز الثقل" في حرب إسرائيل مع حركة "حماس"، وأن "حمايتهم مسؤولية أخلاقية وضرورة استراتيجية، وأن دفعهم إلى أذرع العدو، سيحول النصر التكتيكي إلى هزيمة استراتيجية"، هذا دون التطرق إلى مسألة عودة الهدنة وإسقاط أي جهد بهدف التوصل إلى وقف لإطلاق النار.