حيفا- يحاول كثيرون تقديم فهمهم لعدم انخراط الدول العربية (والإسلامية) في جهد جدي، أو أكبر من الموجود لمناصرة الفلسطينيين عموما، وغزة في محنتها الحالية، بشكل محدد، بما يشمل نقص الاحتجاج الشعبي وضموره تدريجيا رغم الكارثة المتفاقمة والمهولة التي تحدث للغزيين.
وفي رأيي، فإن المسألة تتعلق بتطور تاريخي، وليست حصيلة تطور عيني جرى خلال الحرب أو قبلها قليلا، من حيث اصطفاف الولايات المتحدة مثلا واستقدام أساطيلها مما ساهم في ردع دول عربية وإسلامية عن التفاعل أكثر، وليست بسبب العداء في بعض الأنظمة العربية لفكرة الإسلام السياسي الذي تمثله في فلسطين حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" واللتان قادتا الهجوم المسلح في السابع من أكتوبر/تشرين الأول على غلاف غزة، كما أنهما حكمتا، وخصوصا "حماس"، غزة منذ عام 2007.
التطور التاريخي الذي أقصده يتعلق في مفاعيل عمليتين سياسيتين عميقتين في تأثيرهما تمتا خلال النصف الثاني من القرن العشرين وتعمقتا خلال العقدين الأخيرين. وأعني تراجع الآيديولوجيات الكبرى التي سعت إلى ترتيبات قومية أو دينية عابرة للدول، وفي العالم العربي المقصود أساسا القومية العربية والفكرة الإسلامية الجامعة من ناحية، وصعود آيديولوجيات الهوية الوطنية وتعزيز مكانة الدولة الوطنية في العالم العربي بفارق كبير عن عقود مضت، إلى درجة يمكن اعتبارها- لمصالحها الخاصة- اللبنة المركزية لأي فهم ولأي تحليل لما يجري في العالم العربي، من ناحية أخرى.
تاريخيا، اختارت الحركة الوطنية الفلسطينية وعلانية طريق "استقلالية القرار"، ونال هذا الشعار إعجاب ودعم الغالبية الساحقة من الفلسطينيين، كما اختارت مصر الخروج على الإجماع العربي عام 1979 وتوقيع اتفاقات سلام منفصلة مع إسرائيل، وتبعها لبنان في اتفاقات سلام أفشلت بعدما تراجع عنها الرئيس اللبناني أمين جميل. وبعد ذلك وقعت منظمة التحرير الفلسطينية على اتفاق سلام منفصل مع إسرائيل عام 1993 وتبعها الأردن عام 1994 بعد سنوات من الاتصالات المباشرة مع إسرائيل. وفي أواسط تسعينات القرن الماضي تشكلت علاقات جزئية بين إمارة قطر وإسرائيل وقام وزير خارجية إسرائيل شيمعون بيريس بزيارة رسمية لقطر، والتي قامت بافتتاح مكتب لإدارة مصالحها في تل أبيب.