ألاّ تُسمّيَ المسمَّيات بأسمائها، وأن تنعت الحرب الدائرة في غزة بأنها "حرب الخير ضد الشرّ" فذلك ليس، في نهاية الأمر، إلا محاولة لـ "إضفاء معنى على الأشياء بالزيادة من لامعناها". وهنا لا بد، بطبيعة الحال، أن يرفض الفكر "التفكير في ما يعمل"، وهذا الرفض يتخذ طرقا متعددة، طرقا ملتوية تخفيه كرفض وتغلّفه. من بين هذه "الطّرق" التّعويل على اللغة، معجما ومجازا وترجمة، كي تولّد "المعاني" لإضفائها على الواقع. من هنا غزارة المجازات اللفظية كسلاح حربي، واعتماد البيان اللغوي، وانتقاء نقل الألفاظ من لغة إلى أخرى، وتوليد العبارات التي، من شدةفصاحتها وتجذرها الزمني، ومن كثرة ما تُردّد وتُلاك، تنتهي بأن تقنع قائلها موهمة إياه أنها أقنعت من تتوجه إليهم.
تلعب اللغة هنا لعبتها لا في محاولة إقناع المتلقي أساسا، وإنما في "إقناع" من تصدر عنه و"صناعة" رأيه، وفي تحوّله هو عند تحويله الوهمي لواقع الأمور، وإضفائه المشروعية على ما لا مشروعية له. ذلك أن من يسعى لأن يبرّر أفعاله بإقحامها في الزمن الغابر، وإعطائها حلة بيانية و"قوة تراثية"، قد لا يكون بالضرورة مقتنعا بما يقول، لكن ما إن يُحشَر ما يصدر عنه من أقوال، وما يصبغه على الواقع الفعلي من مجازات ومعان، في الحرب الإعلامية التي تغلّف الحرب الفعلية، حتى يأخذ في تصديق أقواله، فتغدو أداة من أدوات تحليله للواقع، ونافذة لإدراك مجرياته.
لا بد أن ندخل في هذا المجاز مختلف أشكال اللبس التي تنطوي عليها الألفاظ. إذ إن اللبس ليس إلا لباسا لأكثر من معنى. يحضرني، مثالا على ذلك، استعمال اللفظ الفرنسي Terroriste دلالة على معنى "المقاوم"، في حين أنه يدل أساسا على معنى "الإرهابي". إن كان أغلب المحللين الفرنسيين، بمختلف مستوياتهم، يميلون إلى استخدامه للدلالة على المقاوم الفلسطيني، فلأنهم يودون لاشعوريا إنكار علاقة المستعمِر بالمستعمَر التي تربط الإسرائيلي بالفلسطيني. وغير خاف أن ترجمة اللفظ لا تتحدّد بدلالاته اللغوية فحسب، وإنما بالمنظور الذي ننظر به إلى واقع الأمور: فإن أنت اعتبرت أنك أمام حالة استعمار، فلا معنى للإرهاب في هذا السياق. ونحن نلمس هنا مدى التأثير الذي تؤثر به اللغة على تلوين الوقائع، ليس فحسب في معانيها ومجازاتها، وإنما حتى من حيث هي ترجمة وتأويل. بهذا المعنى تغدو الترجمة أداة عنف، وخيانة لا لنص أصلي فحسب، وإنما لواقع الأمور كذلك، أو لنقل إنها خيانة واقع عن طريق خيانة اللغة.
هذه الترجمة تجد التعبير الكاريكاتوري عنها في عبارة ذلك الضابط الأميركي الذي، بعد أن انتهى من التدمير التام لمدينة بكاملها جنوب فيتنام، استخلص قائلا: "كان علينا أن ندمّر تلك المدينة إنقاذا لها"
نتفهم، والحالة هذه، حرص المتحاربين على انتقاء الألفاظ وإقحامها في سرديات منمّقة، بل و"أسطرتها"، وتحميلها معانيَ متعالية على التاريخ. ونحن ما زلنا نذكر التسميات التي كان جورج بوش هو كذلك يطلقها على حربه، من أنها حرب "الخير ضد الشر" وما إلى ذلك. كما نذكر تلك الطريقة الجديدة التي كانت الولايات المتحدة قد اعتمدتها عندما سمحت بمصاحبة "جنود الإعلام" لجنود الحرب، والتنقل معهم أثناء حرب العراق، كي تُنقل الأخبار في حياتها وحيويتها إن صح ربط المعارك بالحيوية والحياة.
لقد غدا الإعلام أهم أسلحة الحروب اليوم. لا نقصد فحسب أن تلك الحروب تعتمد الدعاية الإعلامية، وإنما أن الإعلام هو أداتها الأساسية، على غرار ما كانت الطاقة تشكل أداة الحروب العظمى السابقة. إنه الإعلام بما يولّده من أفراد يفقدون القدرة على إدراك حقيقة التجربة الواقعية، ولا يعودون يستشعرون حقيقة العالم الواقعي، ولا يدركون معنى ما يتمّ فيه، بحيث يجعلهم الإعلام يفقدون القدرة على تحليل الخطابات، بل يفقدون حتى أدوات تمحيصها، فيصبحون عاجزين عن التمييز والتفكير السليم، وعلى استعداد لأن يتقبلوا أيّ خطاب عن العالم. ولنا في مروّجي الإعلام الغربي اليوم أكبر دليل على ذلك.
ذلك أن كل هذه الأشكال للتملك الوهمي للمعنى لا تدلّ فحسب على الانفصال عن الواقع، وإنما تسهم في الزيادة من لا معناه. هنا يكون ثمن البلاغة اللفظية وتنميق الكلام وخيانة الترجمات، انسلاخا مضاعفا عن واقعية العالم، واستلابا مزدوجا بالنسبة للواقع.لكن، وفضلا عن هذا، عندما ينسلخ الفكر عن جذوره الواقعية، فإنه لا بد وأن ينفصل عن جذوره المعنوية والأخلاقية. وهكذا يترجم الاستلاب الواقعي باستلاب أخلاقي، لأنه يكون استلابا بالنسبة للبعد الإنساني للواقع. حينئذ تكتمل الحلقة، فيغدو المجاز الذي كان يودّ أن يتستّر على اللامعنى الأوّلي مُولِّدا لِلاَمعنى جديد، وتغدو اللغة المجازية، في هذا المجال عنيفة بمعنى مزدوج.
تعطينا حنه آرندت في كتابها "من الكذب إلى العنف" أمثلة كثيرة عن هذه اللغة المجازية، مستقاة من الحياة السياسية المعاصرة، بل حتى من التفكير الذي يعتمده المنطق الصوري والتجريد الرياضي، وما يتخذانه من ترجمة فعلية في الميدان "في شكل حلول مثل التهجير الجماعي للسكان وهدم المدن والقرى". هذه الترجمة تجد التعبير الكاريكاتوري عنها في عبارة ذلك الضابط الأميركي الذي، بعد أن انتهى من التدمير التام لمدينة بكاملها جنوب فيتنام، استخلص قائلا: "كان علينا أن ندمّر تلك المدينة إنقاذا لها".