من أكثر القضايا الجدلية الشائعة في الأوساط العلمية والثقافية هي مسألة تدوين السنّة النبوية، حيث تشيع نظرية مفادها أن كتابة الحديث النبوي قد مرت بمرحلة انقطاع زمني تصل إلى قرنين من الزمان بعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، وأن الأحاديث النبوية في تلك الفترة قد اقتصر حفظها وانتقالها بين الأجيال على الطريقة الشفوية، والحفظ المتداول في الصدور، مما يفتح المجال للتساؤل والبحث حول قضية التحقق من صحة وضبط النصوص المروية شفويا عبر هذه السنين الطويلة، ولهذا أصبحت هذه المسألة من أكثر المسائل التي يثار حولها النقاش والجدال في أوساط المثقفين والباحثين والكتّاب المعنيين بشؤون التراث الإسلامي والثقافة الإسلامية.
يواجه الباحث التاريخي قدرا من الغموض وشح المصادر والمعلومات حين يريد بحث بدايات التدوين العلمي عند العرب وتطوره خلال القرنين الأول والثاني للهجرة، وقد بدأت الدراسات الحديثة في هذا الموضوع منذ أكثر من مئة عام، ولا تزال الآراء فيها مختلفة متضاربة، لكن مما يلاحظ أن هذه الدراسات الموجودة لدينا – ما عدا استثناءات طفيفة – تصر على مفهوم واحد هو أن الرواية لم تكن "إلا شفوية"، في حين تغيب الدراسات العلمية والشواهد الكثيرة التي تدل على بدء تدوين الحديث بشكل مبكر في عصر النبي محمد.
إسقاط الخرافة
قام المستشرق النمساوي ألويس اشبرنجر بإسقاط الخرافة القائلة إن الحديث كان يتداول أساسا بالرواية الشفوية، وتبعه في ذلك المستشرق غولدتسيهر الذي "اعتبر أن كتابة الحديث في صحف أو أجزاء هو حقيقة واقعة في العقود الأولى للإسلام". فكتب المسانيد، والصحاح، والسنن، لم تظهر هكذا فجأة، بل كانت ضمن سلسلة مستمرة من مراحل تطور تدوين الحديث النبوي الذي مر بأطوار مختلفة حتى استقر على أسس علمية من الكتابة المنهجية التي تعارف عليها المصنفون والمحدثون، حيث مر تطور كُتب الحديث بثلاث مراحل، هي: