يمر سوق النفط بفترة من عدم اليقين وليس من اليسير تحديد توجهات الأسعار في ظل أوضاع اقتصادية متقلبة. تعتبر الصين أهم البلدان المستورة للنفط، والمستهلكة أيضا، وهي تواجه ركودا ومؤشرات اقتصادية صادمة.
أما اليابان التي تؤكد إحصاءات الاستيراد تراجع وارداتها من النفط خلال الشهور والأسابيع الماضية، فتعد من أهم الدول المستوردة للنفط وتعتبر رابع دولة في ترتيب الدول المستهلكة للنفط الخام في العالم ويقدر استيرادها بنحو 2.7 مليون برميل في اليوم، في وقت صارت الصين أكبر دولة مستوردة للنفط بمقدار 11.8 مليون برميل يومياً، وتفوقت على الولايات المتحدة التي تستورد 9.1 ملايين برميل حيث أن ارتفاع الانتاج المحلي هناك مكّن من خفض الاستيراد.
لا شك في أن البيانات الاقتصادية في شأن الصين أدت إلى عدم ارتياح في أسواق النفط، ومن أهم هذه البيانات انخفاض قيمة الصادرات الصينية في شهر أكتوبر/تشرين الأول، بنسبة 6.4 في المئة عن مستواها في شهر أكتوبر/تشرين الأول 2022، وبنسبة 6.2 في المئة عن مستواها في شهر سبتمبر/أيلول الماضي. يبدو أن الصين تواجه مصاعب منذ أشهر بعدما تعرض القطاع العقاري إلى أزمة ديون غير مسبوقة وزيادة المعروض من الوحدات السكنية دون توافق مع مستوى الطلب.
مؤشرات الصين تقلق الأسواق واليابان مقبلة على تراجع الاستهلاك في 2024
تتوقع وكالة الطاقة الدولية "IEA" أن ينخفض استهلاك اليابان من النفط إلى 3.3 ملايين برميل يومياً في سنة 2024. وكانت اليابان أغلقت مصفاة ENEOS التي تنتج 120,000 برميل يومياً خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الفائت، وهناك خطط لإغلاق مصفاة Kosan في شهر مارس/آذار 2024، ويمثل الإغلاق خفضاً بنسبة 7 في المئة من الطاقة التكريرية في البلاد.
ويعتبر معدل النمو الاقتصادي في اليابان الأقل بين بلدان منظمة التعاون والتنمية ويدور حول 2 في المئة سنوياً. غني عن البيان أن اليابان تعاني من تراجع في عدد السكان وارتفاع في نسبة الذين تزيد أعمارهم على 65 عاماً حيث يمثلون الآن 30 في المئة من إجمالي السكان. معلوم أن استهلاك كبار السن من السلع والخدمات لا بد أن يكون محدوداً، وأحيانا متواضعاً، قياساً باستهلاك الفئات العمرية الأقل سناً. لذلك فإن الطلب على الطاقة لا بد أن يتراجع.
هناك معطيات من جانب العرض حيث أن الدول الأفريقية لا تزال تعاند في تطبيق قرارات "أوبك بلس" المتعلقة بخفض الإنتاج نظراً إلى أوضاعها المالية المتردية. تنتج هذه الدول كميات لا بأس بها حيث تنتج نيجيريا 1.3 مليون برميل يومياً، أما أنغولا فتنتج 1.2 مليون برميل يومياً في حين هناك بلدان أخرى تنتج كميات أقل من نصف مليون برميل يومياً، مثل الكونغو وغانا وغينيا وغينيا الاستوائية والغابون، عدد من هذه البلدان أعضاء في "أوبك"، وأخرى من خارجها. تمثل كميات النفط المنتجة في هذه الدول امدادات مهمة في سوق النفط وعندما تتعطل قرارات الخفض في أي منها فإنها تؤثر على مستويات الأسعار.
أما البرازيل فصارت لاعباً مهماً في صناعة النفط. معلوم أنها بدأت بالإنتاج في ثمانيات القرن الماضي، وأصبحت شركة "بيتروبراس" من أهم الشركات الوطنية في عالم النفط. تعد البرازيل من أهم منتجي النفط في العالم ويقدر الإنتاج النفطي خلال هذا العام بـ 3.1 ملايين برميل يومياً. لذا عند اتخاذ مجموعة "أوبك بلس" أية قرارات في شأن رفع الانتاج أو خفضه، لا بد أن تأخذ المصالح البرازيلية في الاعتبار حيث أصبح الخام البرازيلي من أهم النفوط المصدرة إلى الصين إذ بلغت قيمة الصادرات النفطية البرازيلية 14.2 مليار دولار في العام الماضي. إذاً، يمثل جانب العرض العنصر الفاعل في تحديد الأسعار عندما يكون الطلب متراخياً أو متراجعاً.
صارت البرازيل لاعباً مهماً في صناعة النفط في العالم
"أوبك" و"أوبك بلس"
لربما تواجه دول "أوبك" وحلفاؤها النفطيون في "أوبك بلس"، معضلة في الوقت الحاضر في معالجة تحديد الامدادات من الدول المنتجة. الاجتماع الأخير الذي عقد يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني، لم يؤثر كثيراً على الأسعار وإن كان العديد من المتعاملين تفاعلوا مع نتائجه بشكل فاتر، لكنه لم يعتمد أية خفوضات إضافية خلال السنة المقبلة، في حين يمكن أن تكون هناك خفوضات طوعية من عدد من الدول.
سبق وووعدت السعودية بخفض مليون برميل يومياً من إنتاجها، في حين تعهدت روسيا بخفض 500 ألف برميل يومياً، وكان سبق إقرار هذه التعهدات، أن يكون الخفض الإجمالي 2.2 برميل يومياً من حصص الإنتاج المعتمدة لكل الدول المنتجة. غني عن البيان أن الدول المنتجة تحاول الحد من تراجع الأسعار وتعمل على تماسك الأسواق، لكن هذه المحاولات تصطدم بالأوضاع الاقتصادية المستعصية في العديد من الدول المستوردة للنفط وأهمها الصين اليابان.
يدور سعر نفط البرنت حول 79 دولاراً للبرميل حاليا، في حين يسعر نفط غرب تكساس بـ 74 دولاراً للبرميل. تبدو هذه الأسعار منخفضة، خصوصاً بعدما كان سعر البرنت يقارب 94 دولاراً للبرميل في شهر سبتمبر/أيلول من السنة الجارية. ويقارب سعر البرميل في سلة نفوط "أوبك" في الوقت الحاضر 85 دولاراً. فهل ستتمكن الدول المنتجة من مواجهة التزاماتها السنوية للانفاق في ظل هذه الأسعار؟
على دول الخليج تجاوز الواقع الراهن وصناعة ثروة بديلة بعد مضي ما يزيد على سبعة عقود من عصر النفط
هذا السؤال يتردد لدى المراقبين الاقتصاديين على مدى سنوات طويلة عند حدوث تراجع في الأسعار، لكن السؤال الأساسي والمُلح هل ستتمكن دول الخليج تحديداً، من تجاوز الواقع الراهن وترشيد الانفاق وتعزيز الايرادات من مصادر دخل أخرى، وتعمل على صناعة ثروة بديلة بعد مضي ما يزيد على سبعة عقود من عصر النفط ؟
سيكون النفط معرضاً لتحديات مهمة تواجه اقتصاديات الطاقة والسعي لتطوير بدائل طاقة نظيفة على مدى السنوات المقبلة، وهناك المتغيرات في صناعة السيارات ووسائط النقل التي قد تحررها من الاعتماد على الوقود الاحفوري خلال سنوات قليلة. ربما سيتطلب ذلك زمناً أطول، لكن على البلدان المنتجة أن تتعامل مع الامور بجدية وتكييف اقتصاداتها لمواجهة كل الاحتمالات.