بالقدر الذي تتفرّد به الرواية في خرائط السّرد كنوع أدبيّ شموليّ، تتفرّد القصة القصيرة هي الأخرى كنوع أدبيّ مُكثّف، بالغ الدقة في إحداثياته، مما يعني أنّ لكلّ نوع من الفنّين السرديين استقلاليته وخصوصيته وانفصاله عن الآخر كيفما كانت الاشتباكات في ما بينهما، تماما يفرّقهما أكثر ما يجمعهما وهذا مفْصلٌ أجناسيٌّ مشاعٌ لدى الراسخين في كتابتها أو المهتمّين بها من القراء والنقاد على حدّ سواء.
إنّ المقام هنا غير معنيّ بنزوع المفاضلة بين النوعين، الرواية والقصة القصيرة، كما هو مُلازم لكلّ قولٍ نقديّ أو غيره يُشار إليهما معا من باب تأكيد صعوبة الكتابة في هذا الصنف، مقابل الأخفّ صعوبة في ذاك، إذ الكتابة أولا وأخيرا محض عمل شاقٍّ من حيث الأصل والمنطلق، وأما الأنواع الأدبية فمحض أشكال جمالية تتواءمُ غوايةُ ألعابها وفنيةُ إبداعيتها مع قلق الكاتب الخاص، اختياراته ونمط رؤيته.
كثيرٌ من الروائيين عُرفوا في بدايتهم بالكتابة في فن القصة القصيرة، قبل أن يجربوا كتابة الرواية، لكن لم يعودوا للأولى في ما يشبه تنكُّرا أو نسيانا إلى لا رجعة بينما التزموا بالثانية. صنفٌ من هؤلاء الروائيين زاوَل كتابة القصة القصيرة كتمرينٍ للعبور إلى الرواية، وصنفٌ ثانٍ زاول كتابة القصة القصيرة بإخلاصٍ للعبتها الجمالية لا غير، وإن لم يعاودوا الكَرّة أو يؤوبوا للإبداع فيها فليس لأن الرواية جرفتهم فنأوا عنها، بل راكموا فيها تجربة نوعية واكتفوا بذلك علامة وأثرا دونما اجترار وتكرار، في ما صنفٌ ثالثٌ من الروائيّين ظلّوا ملتزمين بالكتابة فيهما معا (الرواية والقصّة القصيرة)، إذ زاوجوا بينهما سواء باعتدال أو تأرجح بين ضفتيهما، تارة لهذه وتارة لتلك، وهكذا دواليك.
كثيرٌ من الروائيين عُرفوا في بدايتهم بالكتابة في فن القصة القصيرة، قبل أن يجربوا كتابة الرواية، لكن لم يعودوا للأولى في ما يشبه تنكُّرا أو نسيانا
هذا التّحصيل شائعٌ أيضا، لكنّ إدراجه هنا ضرورةٌ لا بدّ منها لما هو لافتٌ ذي علاقة بالعنوان أعلاه، أي نماذج القصص القصيرة التي كفّت أن تظلّ كذلك، إذ بعد صدورها في مجاميع أو مفردة، تحوّلت بقدرة قادرٍ من طرف كُتّابها أنفسهم إلى روايات، بل وصارت أعمالا روائية ذائعة الصيت، في حين نُسي أنّها كانت في الأصل محض قصص قصيرة، وربما القليل من يعلم بحقيقة هذا التحوّل النّادر.
ماذا يعني أن ينشر كاتبٌ قصة قصيرة، وهو يعي بتمام الحرفيّة ما يعنيه الختمُ عليها بهذا التّوصيف الحاسم والنهائيّ، إذ هي استوفت جنسيتها الفنية الخالصة كقصة قصيرة، وفي انزلاقها إلى الوجود ذاعَ أثرُها بهذا التّوصيف وقد خلقت لنفسها حياة بين القراء، غير أنّ كاتبها نفسه، رجعَ بغتة إليها مرّة ثانية، مُقرّرا أن يحوّلها إلى رواية!
هل يعني هذا الأمر أن قصته القصيرة المنشورة سلفا لم تكن كذلك؟ لنقل نصّا مفتوحا بالأحرى أراد له أن يستمرّ، أن يتنامى ويأخذ شكلا آخر، فإمّا تلك نيته التجريبية المسبقة، أو هذا الارتياب نشأ لحظة كتابته أو الانتهاء منه؟ هل خدع الكاتب قارئه ونفسه حينما أقرّها أوّلا قصة قصيرة واتضح لاحقا بأنها مشروع رواية، وذلك حينما تحولت فعلا إلى عمل روائي؟ ألا يقودنا هذا النوع من العمل على هكذا قصص قصيرة بتغيير هويتها الأولى والزجّ بها في ورطة هوية ثانية، إلى إبدال نوعيّ جديد، يجعلنا نسلّم وفق هذا النمط من الاشتغال بأنّ ما من قصة قصيرة إلا وهي مشروع رواية؟ وحتّى لا نعمّم ربما قصص قصيرة بعينها ما تتمتّعُ بهذه القابلية وليس كلّها واستنادا إلى ذلك ففرضية تحويلها من جنس إلى آخر من طرف الكاتب نفسه تظل قائمة بدون أي حرج قصصي أخلاقيّ؟
لا يتوقف تناسل الأسئلة الارتيابية عند هذا الحدّ، فقد يبدو نشر الكاتب لنصّ موسوم بقصة قصيرة ثم يعود إليه ليضاعفه كيما يصير رواية مسألة تسرّع منه، إذ كان بإمكانه التريّث حتى يقرّر فيه ما إذا كان سيكون النصّ رواية فيجعلها كذلك، أو ما إذا كان سيكون قصة قصيرة فيجعلها كذلك وانتهى. أم هي الكتابة ما يقرّر بدل الكاتب، إذ خُيّل له في البدء أنّ ما يكتبه محض قصة قصيرة، واتضح فيما بعد أنها مشروع رواية بحسب لعبة الكتابة نفسها التي شاءت ألا تظل القصة القصيرة عينُها قصة، بل محض رواية!
كيف يكون النص إذن قصة قصيرة وفي الآن ذاته رواية؟ ألا يهين الكاتب القصة القصيرة ذاتها حينما يجنّسها كذلك في حفل عقيقة النشر، ثم لا يني يعيد النّظر في عقد ازديادها مُجنِّسا إياها من جديد إلى رواية، إمّا على سبيل الاحتفاظ بازدواجيتهما، أو إلغاء الأولى لصالح الثانية؟ وكأنّه بهذا التغيير الطارئ، قزّم مقدار القصة القصيرة المعنيّة، لصالح عمْلقة مقدار الرواية البديلة!
ثمّ ماذا لو عكسنا المعادلة: في الوقت الذي تحوّلت فيه قصص قصيرة إلى روايات، هل من روايات بالمقابل تحولت إلى قصص قصيرة؟ قطعا الجوابُ عدم.
هي محصّلة تساؤلات مفتوحة، من المحتمل أنْ تُهاجس القارئ وقد صادف مُنجزا روائيّا عرفه سابقا كمُنجز قصصيّ للكاتب نفسه، مثلما نلفي في أمثلة شهيرة كرواية "السيدة دالواي" لفيرجينيا وولف التي تشعّبتْ من قصتها القصيرة: "السيدة دالواي في شارع بوند" 1923، ورواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل المُستأنفة لقصته القصيرة :"مزرعة الحيوانات: قصة خرافيّة" 1945. ورواية"الحارس في حقل الشوفان" لسالينجر المؤسسة على قصته القصيرة "تمرد طفيف خارج ماديسون" 1946، ورواية "ساعة نحس" لغارسيا ماركيز التي نشأت بالكامل من قصته القصيرة "يوم من هذه الأيّام" 1962، ورواية "العالم الكريستالي" لـ ج. ج. بالارد التي وسّعت من تخييل قصته القصيرة "الرجل المضيء" 1964. ورواية "المنطقة الميّتة" لستيفن كينغ المُطابقة لقصة قصيرة له بالعنوان ذاته 1979، ورواية "التصويبات" لجوناثان فرانزن التي اعتمدت قصته القصيرة حول عائلة "لامبرت" 1996.