يبدأ فيلم مشعل الجاسر الأول بمشهد "فلاش باك" في منتصف سبعينات القرن الماضي، في أروقة مستشفى تجري فيه إحدى عمليات الولادة، وبينما نتحرك إلى الأمام تدور الكاميرا حلزونيا في إطارٍ مقلوب، وبهوادة متوترة نشعر أن الصورة تعبّر عن غضب يتأجّج تحت الستار، وجميع من حولها في حالة من الهلع تجاه ما تخفيه، فتكشف تدريجيا عن شخص يحمل بندقية آلية متجها إلى غرفة العملية، ليسفك دماء الطبيب والأم، متسبّبا بالموت في مكان يُعتبر آمنا وملجأ منه. لينتقل الجاسر بعدها إلى مقدّمة الفيلم الذي يمتد في أعماق فيديو "فن سايكدلي" Psychedelic Art ينذرنا من خلاله بأننا أمام رحلة فريدة نحو جحيم الهلوسة الإبداعية.
منذ المقاطع القصيرة التي صنعها الجاسر على مدى العقد الماضي، كان وما زال اسما مرتبطا بالكثير من الوعود، والتي تتنبأ بمخرج سعودي متفرّد بأسلوبيته، فقد رأى بعضهم أنها ليست سوى طاقة مرئية لخيالاته المتفجرة داخل الأماكن المغلقة، واعتبرها آخرون تمددا لحركته في كل ما هو متحرّك، واستفزازا منه لكل ما هو متجمد. فهو يتحكم بأدواته كأنه يحرّك الدمى، ويخلق قدرا عارما من الفوضى التي ينسجم معها ممثلوه ويتفاعلون بأدائهم من خلالها، كما يمكن القول إن هذا الوعد الذي أصبح قريبا أكثر من أي وقت مضى، قد ألهم العديد من المخرجين السعوديين الذين قدموا أفلاما طويلة قبل أن يبصر فيلم الجاسر الطويل الأول الضوء.
هلوسات
في فيلم "ناقة" الذي عُرض أمس السبت ضمن مهرجان البحر الأحمر السينمائي، من إنتاج منصة "نتفليكس"، يعمّق الجاسر وظائف صورته ويضيف نضجا إلى أسلوبه. يقودنا من خلاله في رحلة مع بطلة فيلمه، سارة (أضواء بدر)، التي ترافق الفيلم في كل مشهد منذ البداية وحتى النهاية. حيث تنطلق الحكاية التي تقع أحداثها في يوم واحد فقط في تحضيرها للخروج من المنزل تحت سلطة أبوية قاسية ذات أبعاد وحشية كارتونية، وذلك إلى أسواق العويس الواقعة في مدينة الرياض بين شارعي العليا والملك فهد، أو البقعة العتيقة بين الشريانين الحديثين في شمال وسط المدينة، واضعا لها أبوها موعدا للعودة عند الساعة العاشرة مساء يحرّم تجاوزه.