أن تتجسّد مشاهدَ الحروب السابقة بدقة رائعة في فيلمٍ سينمائي تاريخي وتخييلي معا، فلا ريب أن هذه المشاهد تمنح العمل بُعدا دراميا وملحميا ورؤيويا، ومن هنا تحظى هذه الأفلام بالشعبية والشهرة، وبتقديرٍ المشاهدين والنقاد لكيفية تحويل تلك الحروب إلى عمل فني مؤثّر، ليبقى أهم هدف استحضار السؤال الأسمى للمُشاهِد: من أجل من يا ترى خُلقت هذه الحروب؟ ولمَ؟
وهو سؤال يأتي بعد مشاهدة موت ملايين الجنود والمدنيين على هذه الأرض، عبر التاريخ، والألم الذي صاحب ذويهم وأوطانهم، إلا أن هذا لم يحدث في فيلم "نابليون" للمخرج ريدلي سكوت، الذي عُرف منذ شبابه وبداياته بشجاعته في تقديم الأفلام التاريخية الجريئة، لينال على أعماله التكريمات المتتالية، إلا أن فيلم نابليون نال انتقادات واسعة من الفرنسيين والمؤرخين بسبب الأخطاء التاريخية، فهم ينكرون أن نابليون بونابرت كان مجرد قائد طموح، بل هو سليل عائلة عسكرية، كما أزعجتهم السخرية من قصر قامته، والحديث عن علاقته المضطربة بزوجته جوزفين، وأنكروا أنه قصف بالمدفعية رأس الهرم الأكبر خوفو أثناء وجوده في مصر، لإخافة الجيش الإسلامي العثماني المدعوم من الأسطول الإنكليزي. فكل هذا وأكثر غير صحيح تاريخيا.
كان غضب المخرج الثمانيني ريدلي سكوت من المنتقدين الفرنسيين واضحا في المؤتمر الصحفي المرافق لانطلاق الفيلم، فهو صاحب تاريخ من الأفلام الخالدة، مثل روبن هود و1492 والمصارع، ومملكة السماء، فعلق على تلك الانتقادات بالقول: "يبدو أن الفرنسيين لا يريدون معرفة أنفسهم".
السينما، مثل الأدب، لا تعير أهمية لكل معلومة تاريخية، بل للقيمة الإنسانية في التاريخ
لن أُنكر على الفرنسيين غضبهم من الفيلم، فهم أدرى بتفاصيل شخصية نابليون بونابرت التاريخية، ليس من خلال المصادر المؤرخَة فقط، بل وحتى في التراث الشفهي بينهم وفي أقرب مقهى وهم يتبادلون الحديث عن أخطائه، ولكنهم يقدرونه، لأنه أسس لهم مجلس الدولة وابتدع المدارس الثانوية، وشهادة البكالوريا والكليات، وبنك فرنسا، وبورصة فرنسا، وغرفة التجارة وقانون العقوبات... فحوّل فرنسا إلى دولة حديثة، خاصة حين اعتمد القانون المدني، والذي جعل هذا النظام الجمهوري الوليد، يؤثر أخذت في بقية الدول. منذ ذلك الوقت بدأت التلميحات الاجتماعية والسياسية بين النظامين الفرنسي والإنكليزي وفي ما بعد الأميركي، ولم تهدأ حتى اليوم.
من يريد مشاهدة فيلم نابليون لمعرفة الوقائع التاريخية، فعليه أن يقرأ سيرة حياته، وتاريخه الحربي من الوثائق الحقيقية والمتوافرة، كي يصحح لنفسه أثناء المشاهدة بعض الأخطاء التي لا تقلل من قيمة العمل، فمن جهة – على سبيل المثال لا الحصر - وأثناء إعدام ماري أنطوانيت، حيث بدأ الفيلم في مشهد الساحة وإعدام الملكة عام 1789، وهي السنة الفاصلة، كان نابليون بين الناس في الساحة، والحقيقة أنه كان في قلعة طولون مدافعا، وهذا موثق لكنه لا يضر العمل. ومن جهة أخرى على محبي السينما أن يثقوا بالسينما، فهي مثل الأدب، لا تعير أهمية لكل معلومة تاريخية، بل للقيمة الإنسانية في التاريخ، فمن يكتب الأدب يهمه التأثير، ويدع التاريخ الدقيق مكتوبا في الكتب الموثقة لمن أراد الدقة، وكذلك من أراد مشاهدة فيلم تاريخي، فلا يمكن أن تغيب وجهة نظر المخرج الذي يصنع أبعادا للمَشَاهِد التصويرية والامتدادات التي تقاس بها الفكرة.
يبقى ما بين إنكلترا وفرنسا تاريخ طويل من المنافسة الاستعمارية، ومن هنا نرى تقليل كل منهما شأن الآخر من خلال التلميحات الفنية والإعلامية والقصصية
يبقى ما بين إنكلترا وفرنسا تاريخ طويل من المنافسة الاستعمارية، ومن هنا نرى تقليل كل منهما شأن الآخر من خلال التلميحات الفنية والإعلامية والقصصية، فنابليون مثلا دخل مصر ومعه الآلة الطابعة وعلماء آثار ومهندسين وفنانين، وكأنه ذاهب في رحلة استكشافية حقيقية، وحين أخرج الإنكليز الفرنسيين من مصر، فقد اضطروا إلى الاهتمام بالآثار مثلما كانت تفعل فرنسا، وتكمل نقل القطع المهمة إلى لندن، كما نقل نابليون الآثار إلى باريس، لتثبت إنكلترا للعالم أنها تهتم بثقافة الأوطان التاريخية، وإن استعمروها عسكريا.
وأخيرا يبقى فيلم نابليون مؤثرا، لأنه جسّد تفاصيل حروب فرنسا مع روسيا وإنكلترا ومعركة واترلو وغيرها، وبشكل فعّال، وإمكانيات تصوير إبداعية تبقى في الذاكرة، وكل هذا تخلل قصة حبه لجوزفين التي شهدت على مسيرته المهنية. أمّا من أراد معرفة تاريخه فلا يجب أن يعتمد على السينما أو الأدب كقيمة وثائقية، لأن الفن والإبداع يعتمدان على إثارة المشاعر، وهو السعي الأسمى لهما، وليس ما قد يتضمنانه من أخطاء تاريخية ثانوية.