الواقع أن "وداعا جوليا"، الذي يُنبئنا عنوانه مرة أخرى بتراجيدية النهاية، يتحدث عن الحرب التي سبقت هذا الانفصال، الحرب المباشرة لكن بصورة أكبر الحرب الداخلية، ويتناول ثيمات حسّاسة كالعنصرية، وتغريب الآخر وشيطنته تمهيدا للتخلص منه. كما يركّز على ما يدور في البيوت المغلقة وفي نفوس النساء المقموعات تحديدا، وتأثير ذلك المُعطى على تماسك الوطن الكبير، عدا عن التساؤلات المشروعة التي يطرحها مخرج العمل ومؤلفه محمد كردفاني عن معنى الوطن، وإمكان إعادة صياغة المفهوم بما يتلاءم مع الظروف الجديدة التي شارك في صناعتها وخضع لها في الآن نفسه، أبناء هذا الوطن.
عوالم النساء
على صفحات "المجلة"، كنا قد تحدثنا في يوليو/تموز الماضي عن فعالية عرض أفلام سودانية قصيرة في المعهد الفرنسي بالقاهرة. ضمن هذه الفعالية، جئنا على ذكر الفيلم القصير، "نيركوك"، للمخرج نفسه محمد كردفاني؛ الذي تبدت فيه بعض سمات الشخصية السينمائية لكردفاني، مما كان يمهِّد لانطلاقته الكبيرة في "وداعا جوليا". إنه هنا، يطوّر بعض الثيمات التي كان قد تناولها ويشتغل على العوالم البصرية التي أسسها وجرت فيها أحداث فيلمه القصير، كأنه يعود ليملأ الفراغات التي تركها. لكنه أيضا يقطع مسافة كبرى إلى الأمام، ولئن كان "نيركوك" قد افتقد بشدة حضور النساء، إذ دارت الأحداث حول صبي صغير، وعصابة من الأطفال ورئيس هذه العصابة ضد مواطن بورجوازي، وكل ذلك في أعقاب حرب ما، فإن "وداعا جوليا" يعوض هذا الافتقاد، وتدور أحداثه بشكل شبه حصري في عوالم النساء، في حميميتهن، وخلواتهن، في أحلامهن الكبيرة، وفي واقعهن المقيّد.
تدور الأحداث بين 2005 و2010 في الخرطوم. الفيلم يبدأ عند البطلة الأولى منى (تؤدّي دورها الممثلة المسرحية والمغنية إيمان يوسف)، في بيتها الموسِر، حيث تُعدّ الفطور لزوجها أكرم (الممثل المخضرم نزار جمعة). يبدو كل شيء طبيعيا في بيت يشبه ذاك الذي أغرى اللص باقتحامه في "نيركوك"، الجو الهادئ، والجمالية التي تضفيها حركات منى ولفتاتها على المساحة الحميمية التي تتكوّن أساسا من المطبخ، لكن سرعان ما يواجهنا تفصيل "السقف اللي بينشع"، والكوب الذي يضعه أكرم أسفل هذا السقف، بعدما فشلت أعمال التصليح، مما يوحي بإشكالية خفية في العلاقة بين الزوجين، وبأن السلام الذي رأيناه ليس حقيقيا كما خلنا في البداية.
لا ينتهي النهار، قبل أن تُقاطِع أعمال الشغب في الشارع، مجددا هذا السلام المخادع داخل البيت، حين يصل المشاغبون إلى بيت أكرم، وجاره بكري، فيهدّدون الأول، ويحرقون سيارة الثاني، وتُستثار النعرة الذكورية عند الرجلين، وتتدافع عبارات العنصرية من فميهما. يصيح أكرم غاضبا على منى: "انظري العبيد دول!"، ويقرّر بمساعدة من بكري التدرب على استخدام السلاح للدفاع عن بيته ضد الجنوبيين الذين ليسوا عربا بالنسبة إليه، كما أنهم ليسوا مسلمين، أي أن موتهم لا يعني شيئا وفقا لمنطقه هو وجاره بكري.
في ذلك الزمن، كانت الحياة في مكان آخر بالنسبة إلى منى. تستمع الى دروس الموسيقى في الراديو، وتسأل عن حفل جاز مزمع إقامته في مطعم معين. ثم إلى هناك تذهب، مخفية وجهها تحت نقاب أسود. تعود خائبة الأمل، لأن أعمال الشغب أدت إلى إلغاء الحفل. على الجانب الآخر، كان يعيش سانتينو (يؤدّي دوره قير دوني)، لحظاته الجميلة مع زوجته جوليا (عارضة الأزياء الشهيرة وملكة جمال السودان السابقة سيران رياك)، وولدهما الصغير داني، على الرغم من اضطرارهما إلى التنقل بين أكثر من مكان، هربا من العنف الذي يوجّهه الشماليون لهم باعتبارهم جنوبيين. الحياة في غير مكان آمن، هي نقطة أخرى يشترك فيها "نيركوك" مع وداع جوليا، كما يشكّل داني قاسما مشتركا آخر بين العملين لكردفاني، إذ يشهد وهو الطفل على مأساة مروعة تسببت بها الحرب.
يتقاطع عالم الأسرتين، أسرة أكرم الشمالية، وأسرة سانتينو الجنوبية، حين تصدم منى من دون قصد الصبي الصغير داني بسيارتها في رحلة عودتها من المطعم. ثم تفرّ مذعورة، ليلحق بها سانتينو، بعدما شعر بالغضب من إصرار السيدة على الابتعاد بلا اعتذار حتى. تقع المأساة من إصرار سانتينو على التحدث بكرامة إلى منى المعتدية ومن غضبته لأنها رفضت أن تتحمل مسؤولية فعلتها. أمام خوف منى المزدوج مما ارتكبته، ولا تعرف تبعاته، ومن أن يعرف أكرم خط سيرها قبل هذه الحادثة، أي قصة حفل الجاز الذي أرادت حضوره، تجد نفسها مضطرة إلى اختلاق قصة عن "الزول الجنوبي" الذي يتبعها في اتصالها مع أكرم، وفي بالها بالتأكيد أن تُخيف الرجل الباحث عن حقه، لكن أكرم يتصدى له، ويرديه قتيلا، أمام ناظريها.