هنري كيسنجر... صانع سلام أم عبقري شرير؟https://www.majalla.com/node/305416/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%87%D9%86%D8%B1%D9%8A-%D9%83%D9%8A%D8%B3%D9%86%D8%AC%D8%B1-%D8%B5%D8%A7%D9%86%D8%B9-%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A3%D9%85-%D8%B9%D8%A8%D9%82%D8%B1%D9%8A-%D8%B4%D8%B1%D9%8A%D8%B1%D8%9F
كتب هنري كيسنجر في مذكراته: "إن بدء مفاوضات معقدة يشبه بداية زواج مرتب، يعلم فيه الشركاء أن الإجراءات الشكلية ستنتهي عندما يكتشفون السمات الحقيقية لبعضهم بعضا".
تلخص هذه الكلمات تجربة الرجل في سياسات الشرق الأوسط– المعقدة أيضا- وجولاته الدبلوماسية المكوكية الشهيرة مع الرئيس المصري أنور السادات، والسوري حافظ الأسد. يحتفي التاريخ الأميركي بهنري كيسنجر كرجل دولة من الطراز الرفيع، وهو دون أي شك كذلك. وفي عالمنا العربي يعدونه أقرب إلى مناور ماهر وعبقري، ولو بأجندة شريرة في مساعيه وغاياته. بدلا من تحقيق السلام، مزق كيسنجر– بمفرده تقريبا– منطقة الشرق الأوسط عبر نسف العلاقات السورية المصرية من جهة، وخلق اضطرابات وقلاقل أمنية في العراق من جهة أخرى، مع إصراره على إبعاد ياسر عرفات والقضية الفلسطينية برمتها، عن دوائر صناع القرار في واشنطن.
في أثناء عمله مستشارا للأمن القومي في ولاية ريتشارد نيكسون الأولى، لم يكن لكيسنجر أي دور فعال في شؤون المنطقة، باستثناء الدعم الكبير الذي قدمه للأردن أثناء أحداث "أيلول الأسود" الدامية سنة 1970. وكتب لاحقا: "تأثيري في رسم سياسة الشرق الأوسط خلال ولاية نيكسون الأولى كان أقل مباشرة بكثير من بقية المجالات. أستطيع أن أكتب مذكرة (للرئيس)، وكان بإمكاني التحذير من أمر ما، لكنني لم أمارس أي تحكم حقيقي".
أعيد انتخاب نيكسون في نوفمبر/تشرين الثاني 1972 ووعد أن الشرق الأوسط ستكون له "أولوية كبرى" في إدارته الجديدة، ولكن ليس قبل الانتخابات الإسرائيلية في 30 أكتوبر/تشرين الأول 1973 (التي أُجلت شهرين بسبب اندلاع حرب أكتوبر). مهمته كانت ضمان استقرار المنطقة العربية لكي لا يعكر شيء صفاء الانتخابات الإسرائيلية، وبهذا يكون كيسنجر الوزير قد فشل في مهمته الأولى، لأنه تفاجأ بالحرب المصرية السورية في خريف عام 1973.
أدرك السادات أن طريقه إلى كيسنجر سيبقى مسدودا بوجود الخبراء الروس في مصر، وفي يوليو/تموز 1972، طلب إليهم مغادرة البلاد فورا
سوء تقديره عن السادات
جاء الإخفاق الثاني في تقييمه للرئيس المصري أنور السادات الذي خلف جمال عبدالناصر سنة 1970. كتب كيسنجر أن السادات "لم يكن معروفا في واشنطن واستهين به كثيرا" وظن كثيرون أنه سيكون رئيسا ضعيفا ومؤقتا إلى أن يحل مكانه نائبه علي صبري، أمين عام الاتحاد الاشتراكي. ومع حلول مايو/أيار 1971، كان السادات قد تخلص من علي صبري وغيره ليثبت أنه رجل مصر الأقوى والأكثر قدرة على البقاء، ما يخالف تقييم كيسنجر الأولي له. ومن جانبه بدأ السادات بمغازلة كيسنجر منذ مطلع عام 1972، وعرض عليه إعادة فتح قناة السويس مقابل انسحاب جزئي من الأراضي المصرية المحتلة منذ عام 1967.
رفض كيسنجر العرض، ورد عبر وساطة مدير المخابرات السعودية كمال أدهم بأن العلاقات الثنائية بين البلدين ستبقى فاترة طالما أن في مصر خبراء فنيين وعسكريين روسا مقيمين منذ سنوات. وفي 23 يونيو/حزيران 1973 التقى كيسنجر بنظيره السوفياتي أندري غروميكو في مدينة سان كليمينتي الأميركية، الذي جاء حاملا عرضا جديدا من السادات: إنهاء حالة الحرب بين البلدين مقابل انسحاب إسرائيلي إلى حدود ما قبل حرب عام 1967. مرة ثانية رفض كيسنجر العرض، وكان يعتقد مخطئا أن السادات غير قادر على تنفيذ وعوده، وأنه لن يستمر في حكم مصر طويلا.
سلام الشرق الأوسط كان مبنيا على قرار الأمم المتحدة (242) الصادر في 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1967. فيه نص واضح وصريح عن "سلام عادل ومستدام" ضمن حدود "آمنة" ومتعارف عليها دوليا. كانت إسرائيل تطالب بمفاوضات مباشرة مع العرب شرطا أساسيا لتحقيق أية تسوية، وعلق كيسنجر في مذكراته قائلا: "طاردت إسرائيل وهما بأنها تستطيع الاستيلاء على الأرض وتحقيق سلام في آن واحد، بينما ظن العرب في المقلب الآخر أنهم قادرون على استعادة أرض من دون سلام".
أدرك السادات أن طريقه إلى كيسنجر سيبقى مسدودا بوجود الخبراء الروس في مصر، وفي يوليو/تموز 1972، طلب إليهم مغادرة البلاد فورا، ما شجع كيسنجر ووزير الدفاع الأميركي ميلفن للرد على رفع مقترح إلى الرئيس نيكسون بضرورة فتح قناة "سرية" مع السادات كنوع من "المكافأة" على تخليه عن الخبراء السوفيات. وافق نيكسون على المقترح، ودعا إلى مسار مزدوج، يكون جزء منه معلنا، وجزء آخر سريا بين كيسنجر ومستشار الأمن القومي المصري حافظ إسماعيل.
أصم كيسنجر أذنه عن كل ما يتعلق بالفلسطينيين، ولم يكن لديه أية نية للتعامل معهم، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء
كيسنجر وعرفات
وبعد جولة من المفاوضات السرية وصل المستشار المصري إلى واشنطن في 23 فبراير/شباط 1973. طرح على كيسنجر موضوع الأراضي المصرية المحتلة، وعرض مقابل الانسحاب منها سلسلة من الضمانات الأمنية لإسرائيل. ولكنه أضاف أن أي اتفاق سلام، ثنائيا كان أم جماعيا، لن يحصل إلا بموافقة ياسر عرفات، وعليه أن يتضمن شيئا ملموسا للشعب الفلسطيني. أصم كيسنجر أذنه عن كل ما يتعلق بالفلسطينيين، ولم يكن لديه أية نية للتعامل معهم، سواء بشكل مباشر أو عبر وسطاء. ربما كان ذلك ناتجا عن أصوله اليهودية، أو بسبب قربه من قادة إسرائيل الذين كانوا يكرهون عرفات. وفي المدة ما بين يوليو/تموز وأكتوبر/تشرين الأول 1973، أرسل عرفات أربع رسائل سرية إلى كيسنجر، رد الأخير على اثتنين منها فقط، وأوعز إلى نائب رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية بلقاء مبعوث من عرفات في مدينة الرباط المغربية. تعليمات كيسنجر كانت واضحة: "الولايات المتحدة ليس عندها أي عروض لكم". رُتب لقاء آخر في شهر مايو/أيار 1974، كانت نتيجته الفشل أيضا.
حاول كيسنجر إبعاد المسألة الفلسطينية عن طاولة المفاوضات قدر المستطاع، وحاول القادة العرب إقناعه بتعديل موقفه عبر قمة الرباط في 20 أكتوبر/تشرين الأول 1974، التي اعترفت رسميا بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني. ثم جاءت كلمة عرفات الشهيرة في الأمم المتحدة يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 1974، يوم قال إنه يحمل في يده غصن زيتون أخضر، وبندقية ثائر مقاتل: "لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي". أراد الزعماء العرب أن تكون هذه الكلمات، مع اعترافهم بمنظمة التحرير، كفيلة بفتح صفحة جديدة بين أبو عمار، وكيسنجر، ولكن الأخير لم يغير من موقفه.
لم يكن حافظ إسماعيل يعلم أن في جعبة السادات مشروعات أخرى، في حال فشلت مفاوضاته في واشنطن، بشن حرب شاملة ضد إسرائيل، بالتعاون مع سوريا
الطريق إلى "أكتوبر"
في 25-26 فبراير/شباط 1973، التقى كيسنجر بحافظ إسماعيل في منزل خاص على مشارف مدينة نيويورك. وزارة الخارجية الأميركية لم تكن تعلم عن هذا الاجتماع عند حدوثه، وقال له إسماعيل إن الرئيس السادات يريد تسوية قبل نهاية عام 1973. لم يكن حافظ إسماعيل يعلم أن في جعبة السادات مشروعات أخرى، في حال فشلت مفاوضاته في واشنطن، بشن حرب شاملة ضد إسرائيل، بالتعاون مع سوريا. مطالب السادات كانت ثابتة: العودة إلى حدود 1967، ليس فقط مع مصر بل مع كل الدول العربية، وقال إن عودة القدس الشرقية بالتحديد أمر جوهري وغير قابل للنقاش أو المساومة. وعلى الرغم من عقد اجتماع ثانٍ بين إسماعيل وكيسنجر بالقرب من باريس في 20 مايو/أيار 1973 إلا أنه كان واضحا للجميع أن المفاوضات بين الطرفين كانت قد وصلت إلى طريق مسدود. التفت يومها كيسنجر إلى الملك حسين بن طلال، الذي كان يحترمه، وله يعود جزء كبير من الفضل في بقائه على عرشه سنة 1970. وكان كيسنجر قد طالب برفع المعونات الأميركية للأردن من 30 مليون دولار سنة 1970 إلى 45 مليونا عام 1973، وفي المقابل كان الحسين أكثر وضوحا من السادات بالنسبة لقضية السلام، وقال إنه مستعد لمناقشة الضفة الغربية بشكل مباشر مع إسرائيل، ومقابل الانسحاب عنها وإعادتها إلى الأردن. غلطة كيسنجر الكبيرة أنه تلكأ في الاستجابة لعرض الملك حسين، بانتظار الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، ظنا منه أن الوقت كان في صالحه.
لم يكن كيسنجر يعتقد أن السوريين والمصريين قادرون على الحرب، لا من الناحية العسكرية ولا من جهة التنسيق بينهما
حرب أكتوبر
في الساعة السادسة والربع من صباح يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 أُوقظ هنري كيسنجر من نومه في جناحه الخاص بفندق والدورف الشهير في نيويورك. جاءه مساعده لشؤون الشرق الأدنى جوزيف سيسكو وقال إن مصر وسوريا سيهاجمان إسرائيل، حاملا رسالة من رئيسة الحكومة غولدا مائير وصلته من السفير الأميركي في تل أبيب كينيث كيتينغ. "قد نكون في مشكلة" قالت مائير، وطلبت إلى كيسنجر إبلاغ موسكو والقاهرة ودمشق أنها لا تريد الحرب ولا تسعى إليها. أمسك كيسنجر جهاز الهاتف للقيام بذلك تجنبا لحرب من المؤكد أن نتائجها ستكون صعبة جدا على إسرائيل. كان معه 90 دقيقة لتجنب الحرب، فاتصل أولا بالسفير السوفياتي في واشنطن، ونقل إليه رسالة مائير، ووضع منظومة هاتف البيت الأبيض تحت تصرفه لإجراء ما يلزم من اتصالات واستفسارات. اتصل بعدها بالقائم بالأعمال الإسرائيلي، لأن السفير كان على سفر، ومن ثم بوزير الخارجية المصري الدكتور محمود الزيات، الموجود في نيويورك لحضور اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. حاول الاتصال بنائب وزير الخارجية السوري، الموجود أيضا في نيويورك، ولكن البعثة السورية لم تجب على أي من اتصالاته. وأخيرا اتصل بالملك حسين، الذي أبدى قلقه من الحرب، والملك فيصل الذي عبر عن تضامنه الكامل مع الموقف العربي.
حتى تلك اللحظة لم يكن كيسنجر يعتقد أن السوريين والمصريين قادرون على الحرب، لا من الناحية العسكرية ولا من جهة التنسيق بينهما. كان السادات يهدد بخوض حرب كل عام منذ سنة 1971. وفي كل مرة كان يرافق التهديد بحشود عسكرية قبل أن يتراجع وينسحب دون أن يفعل شيئا. ظن كيسنجر أن مناورة عام 1973 ستكون مثل سابقاتها، وأنها مجرد خدعة إضافية من خدع السادات، وقال: "حتى تلك اللحظة، لم آخذ السادات على محمل الجد. رفضته وعددته ممثلا أكثر من كونه رجل دولة".
في اليوم الثاني للحرب تواصل السادات مع الولايات المتحدة، مجددا عبر حافظ إسماعيل. كانت شروطه هي نفسها، وقال فيه كيسنجر: "إن الهدف النهائي للسادات كان سيكولوجيا ودبلوماسيا، أكثر من كونه عسكريا". أثار السادات أزمة دولية كبيرة لدرجة أنها ستزيل الحواجز النفسية لدى جميع الأطراف، وتنجح في نهاية المطاف في جلبهم جميعا إلى طاولة المفاوضات. كتب كيسنجر معلقا: "خاض السادات حربا ليس من أجل استعادة الأرض بل من أجل استعادة احترام مصر لذاتها، وبالتالي زيادة مرونتها الدبلوماسية. أما سوريا فقد كان هدفها تقليديا"، بحسب تعبيره. "من أجل استعادة أراضيها المحتلة، وإلحاق خسائر بإسرائيل".
اتصل كيسنجر بالسادات، وطلب إليه التمهل، وإلى إسرائيل عدم ذكر موضوع الانسحاب من الممرات المائية، ما أدى إلى انهيار المفاوضات
دبلوماسية مكوكية بعد الحرب
في أثناء حرب أكتوبر، طلب كيسنجر تخصيص 3 مليارات دولار لأجل الجسر الجوي الذي أنشأته الولايات المتحدة لمد إسرائيل بثلاثة وثلاثين طنا من الأسلحة والمعدات العسكرية. وعندما فرضت الهدنة بشكل نهائي، أطلقت مفاوضات تحت إشراف أممي بين ضابط مصري وآخر إسرائيلي، نصبت لهما خيمة في نقطة باتت تعرف بـ"الكيلو 101" على طريق السويس القاهرة، يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1973. حققا شيئا من التقدم، وناقشا انسحاب الدبابات المصرية من سيناء مقابل انسحاب إسرائيل إلى شرق الممرات المائية. غضب كيسنجر من هذا المسار الذي جاء من دون علمه وموافقته، ولكأنه– لو استمر ونجح– كان سينسف ما كان هو يخطط له: مؤتمر سلام شرق أوسطي تحت إشراف الأمم المتحدة يعقد في مدينة جنيف السويسرية المحايدة قبل نهاية عام 1973.
اتصل كيسنجر بالسادات، وطلب إليه التمهل، وإلى إسرائيل عدم ذكر موضوع الانسحاب من الممرات المائية، ما أدى إلى انهيار المفاوضات. كان السادات قد بدأ الانسحاب من الفلك السوفياتي، وأراد كيسنجر أن يكون انسحابه كاملا إلى المعسكر الأميركي، مع إبعاده في الوقت نفسه عن سوريا، ودق إسفين بينه وبين حليفه في الحرب، حافظ الأسد. ولو كانت إسرائيل قد وافقت بالفعل على فك اشتباك واسع النطاق في سيناء يومها– قبل انعقاد مؤتمر جنيف– لطالبت سوريا بترتيب مشابه في الجولان. ولضمان عدم حدوث ذلك مع تقدم في المسار المصري منفردا، ضغط كيسنجر على جميع الأطراف لينتظروا مؤتمر جنيف، ويكون أي اتفاق إقليميا وليس محليا، بضمانات دولية.
وصل الأسد إلى القاهرة في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1973، والتقى بالسادات في قصر الطاهرة، وفي هذا الاجتماع، ذُكرت وللمرة الأولى كلمة "فك اشتباك،" مما أثار غضب الرئيس السوري كثيرا لأن هذا المصطلح لم يرد في كل لقاءاتهما التي سبقت الحرب. وفي 10 ديسمبر/كانون الأول 1973، التقى الرئيسان مرة أخرى، هذه المرة في قصر القبة، لمناقشة مؤتمر جنيف. قال السادات للأسد إنه لن يحضر إلا إذا وعد كيسنجر بانسحابات إسرائيلية كبيرة، على الجبهتين المصرية والسورية.
حاول كيسنجر استمالة الأسد وأمسكه من ذراعه مظهرا ودا كبيرا، وتحدث عن فجر جديد في العلاقات السورية الأميركية
كيسنجر في دمشق
بعدها بخمسة أيام، وصل كيسنجر إلى دمشق في أول زيارة له إلى سوريا. التقى بالأسد في قصر الروضة، وبحسب كاتب سيرة الرئيس السوري، الصحافي البريطاني باتريك سيل، لم تكن نواياه سليمة بالمطلق. وقبل أن تحط طائرته في مطار دمشق الدولي بساعات وصل مبعوث خاص عن السادات، وهو صهر الرئيس عبد الناصر أشرف مروان، ومعه تأكيد من القاهرة بأن كيسنجر وافق على أن يكون الانسحاب من الجولان وسيناء قبل مؤتمر جنيف وليس بعده.
حاول كيسنجر استمالة الأسد وأمسكه من ذراعه مظهرا ودا كبيرا، وتحدث عن فجر جديد في العلاقات السورية الأميركية. رد الأسد: "لا يمكن أن تكون هناك صداقة بيننا طالما أنكم لم تكونوا حياديين، وأبديتم انحيازا لصف ضد الآخر". ثم جعل ضيفه يجلس أمام لوحة كبيرة لصلاح الدين الأيوبي الذي حارب الصليبيين وانتصر، اختارها الأسد لرمزيتها. وفيما يلي شهادة الأسد عن الحديث الذي دار بينه وبين كيسنجر:
الأسد: عن أي شيء اتفقتم مع السادات؟
كيسنجر: اتفقنا على مؤتمر جنيف.
الأسد: هل هذا كل شيء؟ كنت في القاهرة قبل أيام قليلة، وأكد لي السادات أنه سيتوصل إلى اتفاق معكم بشأن فك الاشتباك قبل ذهابنا إلى جنيف.
كيسنجر: لم يحدث شيء من هذا القبيل.
الأسد: ولكن قبل ساعات كان أشرف مروان هنا وقال إنك والسادات اتفقتما على ذلك.
كيسنجر: ناقشنا بإيجاز الجبهة المصرية، لكننا لم نناقش الجبهة السورية على الإطلاق. ولم نربط التقدم في فك الاشتباك بمؤتمر جنيف.
بعد تفكير سريع قال الرئيس السوري: "لا أحد سيذهب (إلى جنيف)". تظاهر كيسنجر بالدهشة: "ماذا تقصد: لن يذهب أحد؟". كان في أعماقه مسرورا للغاية أن تقاطع سوريا المؤتمر، لأنه أراد مصر والسادات وحيدين معزولين فيه. وبعد أيام قليلة، كتب إلى الرئيس نيكسون وقال: عدم مشاركة سوريا مُرضٍ للغاية بالنسبة لنا، وهي نعمة مقنعة. أتطلع إلى المستقبل، وأعتقد أن هناك فرصة حقيقية للتوصل إلى اتفاق مصري– إسرائيلي بشأن فك الاشتباك".
تنقل كيسنجر وعلى مدار سبعة أيام بين تل أبيب وأسوان حيث كان السادات يقضي إجازته الشتوية
جنيف واتفاق سيناء الأول
بغياب سوريا، ومشاركة مصر، افتتح كيسنجر مؤتمر جنيف في قصر الأمم المتحدة في 21 ديسمبر/كانون الأول 1973، برئاسة مشتركة مع نظيره الروسي غروميكو الذي أعطي مكانة رمزية في الحدث لكيلا يفسده على الأميركيين. حضر وزراء خارجية مصر والأردن وإسرائيل، ومُثلت دمشق بمقعد فارغ وفوقه لوحة اسمية باسم الدولة السورية. ومن هنا شرع كيسنجر في دبلوماسيته المكوكية الشهيرة، حيث تنقل وعلى مدار سبعة أيام بين تل أبيب وأسوان حيث كان السادات يقضي إجازته الشتوية، وفي 18 يناير/كانون الثاني 1974 وُقع اتفاق سيناء الأول. قدم فيه السادات تنازلات عدة، منها القبول بمجرد سبعة آلاف جندي في سيناء مع 30 دبابة، بعد أن كان قد طالب بفرقتين عسكريتين و200 دبابة. وكان اللواء عبد الغني الجمسي، قائد العمليات في الجيش المصري آنذاك لا يصدق ما يسمع في هذا الاجتماع. وبحسب شهادة محمد حسنين هيكل في كتابه "خريف الغضب" فقد سأل الجمسي: "لا يعقل! كيف يمكن أن تنسحب كل الدبابات، ولا يبقى هناك غير ثلاثين". رد كيسنجر: "الرئيس كان مستعدا لسحب حتى هذه الثلاثين لأننا بصدد صنع سلام".
وبدا التأثر واضحا على الجمسي إلى درجة أنه اقترب من نافذة في الفندق تطل على النيل وأخرج من جيبه منديلا وكان واضحا لبقية الواقفين أن هذا الجندي المنضبط لم يتمالك دموعه. أحس كيسنجر أن الأمور ليست على ما يرام، وتحرك صوب الجمسي حتى وصل إلى مكانه، وسأله: ما الأمر يا جنرال؟ ورد الجمسي يعكس مرة أخرى شعور جندي منضبط لا يعرف خفايا ما يجري وراء ظهره حتى تلك اللحظة، قائلا: لا شيء يا سيادة الوزير. ما دامت هذه هي الأوامر فسوف تنفذ. بالنسبة إلينا الأوامر هي الأوامر.
كان كيسنجر يعلم جيدا أن غولدا مائير لا ترغب في التنازل عن شبر واحد من الجولان
الجبهة السورية
عند الانتهاء مؤقتا من الملف المصري انتقل كيسنجر إلى الجبهة السورية ورأى أن الوقت قد حان لإنجاز مشابه مع دمشق. كان يعلم جيدا أن غولدا مائير لا ترغب في التنازل عن شبر واحد من الجولان، ولكنه كان على يقين من أنه بحاجة إلى تنازل منها لحماية مصر والسادات من الردود العربية واتهامه بالانفراد بقراره والتخلي عن حلفائه وعن القضية برمتها. لكي يستمر الاتفاق المصري الإسرائيلي لا بد من وجود اتفاق مع سوريا أيضا، قال كيسنجر، وانطلق في جولاته المكوكية مجددا التي استمرت من 29 مارس/آذار ولغاية 29 أبريل/ نيسان 1974، تخللتها 130 ساعة لقاء مع حافظ الأسد. وكانت النتيجة خطة ثلاثية لفك الاشتباك: منطقة عازلة تحت إشراف الأمم المتحدة، وحولها مناطق سورية وإسرائيلية محدودة السلاح. وُقع الاتفاق السوري في جنيف يوم 31 مايو/أيار 1974 وعلى الفور انطلق كيسنجر إلى المرحلة التالية من محادثاته مع مصر، والتي أدت إلى التوقيع على اتفاق سيناء الثاني في 4 سبتمبر/أيلول 1974.
لم يكن كيسنجر يريد الفوز للأكراد، بل فقط إلهاء العراق وعزل سوريا
الدخول على خط دمشق بغداد
لكن مخططات كيسنجر لم تنتهِ عند هذا الحد، وقرر الدخول أكثر في العالم العربي بعد تزايد التقارب السوري العراقي في أعقاب انهيار علاقة الأسد بالسادات. لمنع العراقيين من تقديم أي شيء "جوهري" للسوريين، بدأ كيسنجر، بالتنسيق مع إسرائيل وشاه إيران، بدأ بإثارة الملف الكردي في العراق عبر تسليح مقاتلي مصطفى البرزاني وتمويلهم لكي يضعفوا الجيش العراقي ويشغلوه عن سوريا. وسرعان ما ظهرت هذه التدخلات الأميركية في تحقيقات ووترغيت الشهيرة، التي أجراها عضو الكونغرس أوتي بايك، الذي كشف تقريره سنة 1976 كيف سلح كيسنجر الأكراد العراقيين دون خطة متكاملة أو رغبة في انتصارهم. وقال: "وكلاؤنا (الأكراد) شُجعوا على القتال، وكانت حليفتنا إيران ستبقي القوات العراقية مشغولة على حدودها الشرقية، لتكون بعيدة عن سوريا".
لم يكن كيسنجر يريد الفوز للأكراد، بل فقط إلهاء العراق وعزل سوريا. باعهم كذبة تلو الأخرى، لكثرة ما وثق به البرزاني وعد أن النصر سيكون على يديه، أرسل هدية لزوجته يوم عقد كيسنجر قرانه في مارس/آذار 1974، عبارة عن عقد من الذهب واللؤلؤ. ولكنه عندما حصل على ما يريد من الأكراد وشعر بأنهم استنفدوا فائدتهم، تخلى كيسنجر عنهم كما تخلى عن غيرهم من قبل. مثلهم مثل العرب، كان الأكراد ساذجين يوم وثقوا بهنري كيسنجر وصدقوه. لم يسعَ يوما لتحقيق أي منجز حقيقي لأي منهما، وهدفه الوحيد إحضارهم إلى حضن الولايات المتحدة، وإلى حضنه شخصيا، لكي يتمكن من رسم مستقبل المنطقة كما يشاء وكيفما يشاء. وضع كيسنجر أساسات الكثير من الأحداث الجسام التي شهدتها المنطقة من بعده، بدءا بزيارة السادات إلى القدس سنة 1977 ووصولا إلى الحرب الأخيرة على قطاع عزة.