ونحن نتابع بكثير من الحزن والأسى، ما يجري الآن في غزة، لا بأس أن نستذكر قليلا مما تقاسيه مدينة تعز اليمنية، ثمة تشابه في المأساة بينهما، لا يُخطئه ضمير.
إذ إن تعز، هي الأخرى، مثل غزة، سجن كبير ومفتوح، وفي الهواء الطلق لنحو مليون ونصف المليون إنسان، وقد مضى على حصار ميليشيا الحوثي لها، أكثر من ثماني سنوات، شهدت خلالها أبشع أنواع الإذلال والقهر الإنساني، فضلا عن القتل والتهجير والتدمير الممنهج، لكل ما يمنحها معنى الحياة من بشر وشجر وحجر.
ما يفرقها عن غزة أنها منسية، ربما لأن العالم يعتقد أن الحرب الدائرة فيها أهلية، بين طرفين محليين، لكنها في الواقع، هي حرب بين أصحاب الأرض وقوة احتلال، وصمودها هو صمود الأصيل أمام الدخيل، مثل غزة تماما.
وما يجمعها بها، هو تطابق رواية الطرفين المعتديين، بشأن الحصار المفروض عليهما، ذلك أن القتلة كلهم يقرأون في كتاب واحد، فلا تختلف طبائعهم الإجرامية وأساليبهم الانتقامية ودوافعهم الوحشية، باختلاف هوياتهم وراياتهم وشعاراتهم؛ فكما تعمل الدعاية الصهيونية على تشويه وجه غزة المدني، وتحاصرها منذ 16 عاما وتقتل أهلها، وتقول للعالم إنها تشن حربا على الإرهاب، تنكل ميليشيا الحوثي بتعز وتخنقها، بذريعة تحولها إلى قلعة للإسلاميين (داعش، و"القاعدة"، و"الإخوان")، علما أن الطرفين يتوسلان الرواية الدينية، لكي يبنيا عليها أحقية تاريخية بالسلطة. فالصهاينة يقدمون أنفسهم بأنهم شعب الله المختار وفلسطين هي أرض الميعاد، ويدعي الحوثيون أنهم يتحدرون من سلالة رسول الله. وفي أدبياتهم، يمنحهم هذا النسب تفوقا على بقية مكونات الشعب اليمني، ويجعلهم بالتالي أولى بالحكم من غيرهم.
لم يترك الحوثيون متنفسا لأهالي تعز إلا ما يشبه بابا مواربا من الجنوب يفضي إلى ممر جبلي أقاموا عليه حواجز تفتيش
لذلك، احتلوا تعز في أوائل عام 2015، تأديبا لأهلها الذين رفضوا الاعتراف بسلطتهم، استباحوها مدة، ثم انسحبوا إلى أطرافها، تحت ضغط مقاومة عنيفة، مخلفين دمارا عظيما وضحايا. أغلقوا مداخلها، زنروا محيطها بالألغام المضادة للأفراد، وفرضوا حولها طوقا ناريا، ما زال ساريا حتى الساعة، بعدما اتخذوا من المرتفعات المشرفة عليها مواقع عسكرية، يستهدفون منها كل من يتحرك برصاص القنص، فاضطر سكان الأحياء المقابلة إلى النزوح، ومن بقي استعان بألواح الزنك، لبناء عوازل تحميه من أعين القناصة.
لم يترك الحوثيون متنفسا لأهالي تعز، إلا ما يشبه بابا مواربا من جهة الجنوب، يفضي إلى ممر جبلي وعر، أقاموا عليه عددا من حواجز التفتيش، ويتطلب عبوره، الحصول على تصريح مسبق، إلا أنه يظل خاضعا لمزاجية عناصر التفتيش، الذين يغلقونه أحيانا، بلا سبب، وأحيانا ينكلون بالعابرين تشفيا؛ فمنطقة الحوبان التي تبعد حوال 15 دقيقة بالسيارة عن تعز، مثلا، يستغرق الوصول إليها حاليا حوالي ثماني ساعات أو أكثر، بحسب مزاج العناصر.
"طرق الموت"
هناك طلاب من تعز، حُرموا من متابعة دراستهم في الخارج، لأنهم رسبوا في امتحان الحاجز، وشبان وشابات لديهم أحلام وطموحات وأدها الحصار، هناك أقارب صاروا أغرابا، وعائلات انسلخ بعضها عن بعض، حتى العاملون في المجال الإنساني، يُمنعون في أغلب الأوقات، من إيصال الأغذية والإمدادات الطبية والاحتياجات لمستحقيها.
هذا الإغلاق غير الإنساني وغير المبرر، إضافة إلى خطر الخطف الذي يهدد العابرين، أجبر السكان على سلوك ممرات جبلية غير معبدة، سموها "طرق الموت"، وبرغم أنها تكبدهم مشقات مضاعفة، وتشكل خطرا مباشرا على حياتهم، وتشهد من حين لآخر، حوادث أليمة، بسبب تضاريسها الجبلية الوعرة، لكنها صارت تشكل مع الأيام، شريانهم الحيوي الوحيد، الذي يربطهم ببلادهم وبالعالم.
الحالمة تعز، كما يسميها أهلها، حولها الحوثيون إلى مدينة بائسة، بالكاد يُعثر فيها على ملامح تدل على الحياة
الوافدون إلى تعز من المناطق الريفية، لهم حصتهم من المعاناة أيضا، مرضى الفشل الكلوي والسرطان، الذين يقصدون مستشفياتها للحصول على الرعاية الطبية، أكثر المتضررين، كذلك الأطفال الذين يحتاجون إلى اللقاحات الدورية، هناك مرضى فقدوا حياتهم وهم ينتظرون دورهم في العبور، وأطفال قضوا قبل الوصول إلى قسم الطوارئ، وتزداد المعاناة مع هطول المطر، الذي يجرف الطرق الترابية وسالكيها معا نحو الوديان.
وثقت المنظمات الحقوقية قيام الحوثيين عند حواجز التفتيش، بمنع إدخال الفاكهة والخضراوات، ومصادرة اسطوانات غاز المطابخ، وعبوات الأوكسجين لمرضى الربو، واللقاحات والأدوية المزمنة، تحديا للقانون الإنساني الذي يلزم أطراف النزاع، بالسماح بمرور المساعدات الإنسانية إلى المناطق المحاصرة.
وحتى الآن، فشلت كل الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة، في إقناع المسلحين بتوقيع اتفاق لإعادة فتح طريق واحد، للتخفيف من حدة المعاناة.
الحالمة تعز، كما يسميها أهلها، حولها الحوثيون إلى مدينة بائسة، بالكاد يُعثر فيها على ملامح تدل على الحياة. يوم كان اليمن سعيدا، كانت تعز عاصمته السياسية، كل سلالة حكمتها بنت فيها مدارس ومساجد لزق العلم والتثاقف، فصارت عاصمته الثقافية، كما احتضنت على مر الأجيال ثروات زراعية وحرفية وسياحية، وتنوعت فيها الأغاني والأزياء الشعبية كلوحة فسيفساء، لا مثيل لها في الأرض.
وهي منذ نشأتها تتمدد على سفح جبل صبر. لذلك، كان لها من اسمه نصيب، وليس من قبيل المصادفة أن يوفد إليها الرسول الأكرم صحابيه الجليل معاذ بن جبل، جبل يلتئم على جبل، وبرغم أن جبالها لا تخاطب الأنبياء لكنها طالما كانت مهابط للوحي، لذلك سلك فيها ابن علوان طريق تصوف الإقدام لا الإعراض.
من أعاليها تطل تعز على شواطئ المخا، المدينة التي أطلق العالم اسمها- موكا- على ألذ أنواع القهوة، التي أبحرت من اليمن، وتتابع بصبر جبل، كيف تقرصن فرقة حوثية سفينة تجارية، في عمق مياه البحر الأحمر، اقتصاصا من الضالعين في مقتلة غزة، وفي الوقت ذاته، تستكمل فرقة أخرى، قرصنة وجودها؛ المهمة التي بدأتها الحوثية منذ ثماني سنوات، ولم تنتهِ بعد.