هل ستصبح الصين قوة وساطة عظمى؟https://www.majalla.com/node/305286/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D9%87%D9%84-%D8%B3%D8%AA%D8%B5%D8%A8%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%8A%D9%86-%D9%82%D9%88%D8%A9-%D9%88%D8%B3%D8%A7%D8%B7%D8%A9-%D8%B9%D8%B8%D9%85%D9%89%D8%9F
مع استمرار الحرب في غزة، ظلت الصين تلتزم الصمت بشكل ملحوظ، على عكس سلوكها في السنوات القليلة الماضية، حيث اعتادت قوى الشرق الأوسط أن ترى دورا بارزا لبكين في المنطقة، ما رفع حجم تجارتها واستثماراتها ونشاطها الدبلوماسي. وكان من نتيجة ذلك أن تساءل بعض المراقبين عما إذا كان في مقدرة الصين أن تلعب دورا أوسع في الأزمة الحالية. وبالفعل، في 20 نوفمبر/تشرين الثاني، سافر وفد من القادة العرب والمسلمين، بمن في ذلك وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، إلى بكين للضغط من أجل المزيد من المساعدة لإنهاء الصراع.
ولكن في الوقت الذي حث فيه شي جين بينغ إسرائيل على ضبط النفس في التعامل، وتعاطف مع الفلسطينيين وأنحى باللائمة في تفاقم الوضع على الولايات المتحدة، فإن الصين لم تتقدم على النحو الذي كان البعض يأمل أن يراه حول الوساطة الصينية، تأسيسا على نجاحها في الوساطة بين المملكة العربية السعودية وإيران والتوصل إلى انفراج بينهما في مارس/آذار، وأردفت الصين ذلك الاختراق بلعب دور رائد في ضمّ الدولتين ومعهما مصر والإمارات العربية المتحدة إلى مجموعة "البريكس" الموسعة في سبتمبر/أيلول. ومذ ذاك، زادت التوقعات بأن يكون لبكين دور أكثر بروزا في الوساطة الإقليمية.
ومع ذلك، كما تعلم القوى العظمى الأخرى، وخاصة الولايات المتحدة، فإن الوساطة هي نشاط دبلوماسي معقد وربما محفوف بالمخاطر. من المؤكد أن الصين حريصة على الارتقاء بنفسها في بعض الأحيان وتدرك قيمة أن يُنظر إليها باعتبارها "وسيطا نزيها" على مستوى العالم. ولكن في الوقت نفسه، لا تزال القوة الصينية محدودة وحذرة بشكل غريزي، مما يحد من قدرتها على القيام بدور الوسيط العالمي. وفي حالة غزة، قد يكون هناك الكثير من المخاطر والقليل جدا من الإيجابيات.
الانفراج الإيراني- السعودي
كان اهتمام الصين في الشرق الأوسط يتزايد منذ سنوات، ولعل تعطشها للطاقة هو الذي جعل المنطقة ذات أهمية خاصة بالنسبة لها، حيث أصبحت الصين أكبر عميل لشراء النفط الإيراني والسعودي، وثاني أكبر عميل للنفط الإماراتي. وكانت العلاقة الاقتصادية متبادلة، حيث استثمرت الشركات الصينية على نطاق واسع في الشرق الأوسط، وليس فقط في الخليج. فقد قامت إسرائيل ومصر والأردن بزيادة تجارتها مع بكين، في حين كانت الشركات الصينية وراء مشاريع البنية التحتية الكبرى مثل البرج الأيقوني في العاصمة الإدارية الجديدة خارج القاهرة والخط الأحمر لمترو تل أبيب. وقد وقعت كل حكومة في المنطقة، باستثناء إسرائيل والأردن والأراضي الفلسطينية، على مبادرة الحزام والطريق بكين. وهذا الوجود الاقتصادي الكبير لم يقابله تدخل عسكري متزايد في المنطقة.
الحضور الاقتصادي للصين لم يماثله حضور عسكري قوي؛ فعلى النقيض من الولايات المتحدة، ليس لدى الصين سوى موقع عسكري واحد فقط في المنطقة، وهو في جيبوتي
ولكن الحضور الاقتصادي للصين لم يماثله حضور عسكري قوي؛ فعلى النقيض من الولايات المتحدة، ليس لدى الصين سوى موقع عسكري واحد فقط في المنطقة، وهو جيبوتي، وهذا الموقع يخدمها في استثماراتها في أفريقيا ومنع القرصنة في المحيط الهندي أكثر من تركيزه على الشرق الأوسط. ومع ذلك، فإن مدى مشاركتها الاقتصادية جلب لها النفوذ. وقد يُنظر إلى عام 2023 باعتباره عاما تاريخيا بعد أن نجحت الصين في التوسط في الانفراج بين إيران والمملكة العربية السعودية.
انتهت عقود من التوتر، الذي شهد دعم طهران والرياض لأطراف متنافسة في كثير من الصراعات الإقليمية من سوريا إلى اليمن، بقطع العلاقات بين البلدين عام 2016. لكن وساطة الصين، الدولة التي تتمتع كل من إيران والمملكة العربية السعودية بعلاقات قوية معها، دفعت الخصمين الإقليميين إلى التعهد باستعادة العلاقات في مارس/آذار 2023. ومنذ ذلك الحين، بدأ الانفراج في العلاقات يتسع. وذكرت إيران أن ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان قبل دعوة لزيارة طهران في المستقبل، في حين دعي البلدان للانضمام إلى مجموعة "البريكس"، مرة أخرى بفضل جهود الصين، جزئيا.
تنامي دور الوساطة الصيني
لم يكن دور الوساطة المهم الذي لعبته الصين في الشرق الأوسط عام 2023 حدثا منعزلا، بل جاء تتويجا لسلسلة من التدخلات التي انخرطت فيها البلاد منذ سنوات، والتي سهّلها نفوذها الاقتصادي المتزايد في المنطقة. وتعود هذه العلاقات إلى عام 2004، حين استفادت الصين من مكانتها كمشتر رئيس لنفط جنوب السودان للتأثير على السودان لحمله على قبول نشر قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في دارفور. وفي الآونة الأخيرة، مارست الصين تأثيرا خفيا على الدول العربية نحو تعزيز التطبيع مع سوريا، وهي خطوة لعبت دورا في إعادة دمج سوريا في جامعة الدول العربية في وقت سابق من هذا العام.
ولم تقتصر طموحات الوساطة الصينية على الشرق الأوسط. وقبل شهر من اجتماع السعودية وإيران، قدمت بكين خطة من 12 نقطة لإنهاء الحرب في أوكرانيا. مع ذلك، وبينما دافعت عن مبدأ السيادة الإقليمية، فإنها لم تدعُ روسيا إلى الانسحاب من الأراضي التي استولت عليها منذ عام 2014، وهو مطلب رئيس من كييف كنقطة انطلاق لأي محادثات سلام. ويقول النقاد، خاصة في واشنطن، إن اقتراح السلام كان بمثابة محاولة صينية لصرف النظر عن المزاعم بأنها انحازت إلى روسيا في الصراع وليس جهدا جادا للوساطة. ومع ذلك، فإن الاقتراح، الذي كررته بكين عدة مرات منذ ذلك الحين، هو دليل آخر على أن الصين تضع نفسها كقوة وساطة عالمية.
ولعل لموقف واشنطن المتشائم ما يبرره. ومن غير المرجح أن تقوم الصين بالوساطة لأسباب غيرية بحتة. إن طرح خطة سلام في أوكرانيا قد ينفي صورة بكين باعتبارها الحليف القوي لروسيا، ولكن التوسط للتوصل إلى اتفاق بين أكبر مصدرين للنفط في الشرق الأوسط بالنسبة لبكين أمر منطقي من الناحية الاقتصادية لأنه يقلل من فرص تضرر الإمدادات بسبب الصراع الإقليمي. وعلى نحو مماثل، فإن إقناع السودان بقبول قوات حفظ السلام في دارفور من المحتمل أن يقلل من فرص فرض عقوبات أكثر صرامة قد تؤثر على تدفق النفط من الجنوب، في حين أن التطبيع مع سوريا مرة أخرى يقلل من التوترات الإقليمية التي قد تؤثر على مصالح الصين الاقتصادية في الشرق الأوسط.
لعل لموقف واشنطن المتشائم ما يبرره. ومن غير المرجح أن تقوم الصين بالوساطة لأسباب غيرية بحتة
ولكن بعيدا عن المنطق الاقتصادي للوساطة، تتمتع الصين بميزة جيواستراتيجية. وفي الأعوام الأخيرة، ومع تزايد التوترات مع الولايات المتحدة، سعت بكين إلى تقديم نفسها باعتبارها بطلة العالم النامي غير الغربي، بينما تصف الولايات المتحدة في المقابل باعتبارها قوة استعمارية جديدة تسعى إلى تحقيق مصالحها. إن التوسط في النزاعات الدولية البارزة يسمح للصين بإظهار نفسها كـ"وسيط نزيه" حقيقي، على عكس الولايات المتحدة، التي تنحاز إلى جانب وتميل إلى حلفائها. ويبدو أن هذا جزء من استراتيجية صينية أوسع على المسرح العالمي لتقديم نفسها كبديل أكثر عدالة وغير متدخل للولايات المتحدة.
تحديات الوساطة
الوساطة لا تحقق على الدوام فوزا سهلا، بل يمكن أن تحمل جوانب سلبية. ويشكل نجاح الصين في تسهيل الانفراج السعودي الإيراني مثالا واضحا على ذلك. في حين أن الجهود الدبلوماسية التي بذلتها الصين كانت بلا شك مهمة في سد الفجوات النهائية وتحفيز كل من الرياض وطهران للتوصل إلى اتفاق، فمن المهم ملاحظة أن هذه الوساطة حدثت في وقت كان فيه كلا البلدين يميلان بالفعل نحو التفاوض. وقبل مشاركة الصين، كان العراق وعمان يتوسطان بهدوء بين البلدين لسنوات، ويحققان تقدما تدريجيا، ولكن ذا معنى. لذلك، في حين لعبت بكين دورا حاسما في المراحل النهائية، فإنها لم تواجه التحدي المتمثل في إقناع قادة غير راغبين، حيث كان الطرفان بالفعل على الطريق نحو التفاوض.
كانت إيران تعاني وطأة العقوبات الأميركية المستمرة، وعانت أيضا من خلاف داخلي في أعقاب احتجاجات مهسا أميني 2022-2023. وفي حين أنها كانت مترددة في إنهاء كل التدخلات الإقليمية التي أثارت غضب المملكة العربية السعودية وغيرها، فإنها كانت على استعداد للتراجع والتوصل إلى تسوية في بعض المجالات. وبالمثل، كانت المملكة العربية السعودية حريصة على الابتعاد عن صراعات الشرق الأوسط في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لتعزيز تنوعها الاقتصادي المحلي، بما في ذلك أن تصبح مركزا عالميا وإقليميا للترفيه الرياضي. وكان من المأمول أيضا أن يساعد الانفراج مع إيران في تحقيق الاستقرار في اليمن المجاور. في ذلك الوقت، وعلى الرغم من أن الصين لم تكن تفتح الباب بالكامل، إلا أنها لم تضطر إلى بذل جهد كبير للعثور على المفتاح.
وهذا هو النمط الذي نراه في الوساطات الناجحة في أماكن أخرى. لنأخذ على سبيل المثال واحدة من أشهر الوساطات الأميركية: الوساطة بين مصر وإسرائيل عام 1979، حيث بدأ الخصمان بمواقف ليست متباعدة كثيرا. وكانت مصر تريد عودة سيناء مقابل الاعتراف بإسرائيل. وكانت إسرائيل مستعدة للموافقة على ذلك، لكنها اعترضت على الجدول الزمني للانسحاب. كما ضغطت مصر من أجل اتخاذ خطوات نحو تحسين حقوق الفلسطينيين وعملية السلام، ولكن في نهاية المطاف كان الرئيس أنور السادات على استعداد للتنازل عن هذا الأمر من أجل تأمين أهدافه النهائية: سيناء، والدعم الاقتصادي من الولايات المتحدة، وزيادة الشرعية المحلية.
أدى فشل الولايات المتحدة في التوسط بنجاح بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الإضرار بسمعتها العالمية على مر السنين
من جهته، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن على استعداد للتخلي عن سيناء، على الرغم من معارضة حركة الاستيطان اليمينية التي استمد الدعم منها، من أجل إخراج هذه الدولة العربية القوية من الصراع العربي الإسرائيلي. وعلى الرغم من اضطرار الولايات المتحدة لبذل جهود جبارة في كامب ديفيد لتسوية الخلافات والتوسط من أجل التوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق، فإن المواقف الأولية لكلا الجانبين لم تكن متباعدة كثيرا.
ومع ذلك، كما وجدت الولايات المتحدة في وقت لاحق، عندما رعت مرارا مفاوضات بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية ولاحقا السلطة الفلسطينية، يصبح التوسط أكثر صعوبة عندما تكون المواقف المبدئية متباعدة كثيرا. منذ الاتفاقات الأولى في أوسلو، وحتى يومنا هذا، لا تزال هناك مسافة كبيرة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني؛ فهل ستتمتع أي دولة فلسطينية بالسيادة الكاملة مع السيطرة على حدودها وبامتلاكها جيشها الخاص؟ وهل ستشمل الدولة كل الضفة الغربية وقطاع غزة؟ وما هو مصير المستوطنات؟ وماذا عن القدس الشرقية؟ وماذا عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين؟
كانت هذه وغيرها بعضا من نقاط الخلاف الرئيسة بين الجانبين المتفاوضين منذ البداية وساهمت في خروج عملية أوسلو عن مسارها والمحاولات الفاشلة الكثيرة للتفاوض بعد ذلك. وعلى الرغم من كل قوتها ونفوذها على الجانبين، وجدت الولايات المتحدة أنها غير قادرة على التوسط للتوصل إلى اتفاق قابل للتطبيق.
وهنا تكمن خطورة قيام حكومة بطرح نفسها كوسيط. لقد أدى فشل الولايات المتحدة في التوسط بنجاح بين الإسرائيليين والفلسطينيين إلى الإضرار بسمعتها العالمية على مر السنين. في الواقع، يُنظر إلى علاقات الولايات المتحدة الوثيقة مع إسرائيل كأحد العوامل التي ساهمت في هذا الفشل، وتستخدمها الدول المنافسة مثل الصين لتحدي مدى قدرة الولايات المتحدة على أن تكون "وسيطا نزيها".
وفوق ذلك، بسبب دورها في الوساطة عام 1993، "تتحمل" واشنطن الآن، كما نرى في حرب غزة اليوم، عواقب عملية السلام الفاشلة. ويستطيع الإسرائيليون والفلسطينيون أن يطالبوا الولايات المتحدة، بعد كل وعودها ومبادراتها، بأن تلعب دورا قياديا في حل الوضع المأساوي في نهاية المطاف. باختصار، بعد أن تقدمت الولايات المتحدة كوسيط، فمن الصعب للغاية أن تنسحب الولايات المتحدة حتى بعد مرور ثلاثين عاما، دون أن تخسر ماء وجهها وسمعتها. إلى حد كبير.
التردد الصيني في غزة
كل هذا قد يشير إلى السبب وراء عدم عرض الصين حتى الآن التوسط في غزة. على السطح، قد يكون عرض التفاوض منطقيا بالنسبة لبكين، التي تتمتع بعلاقات تجارية قوية مع إسرائيل، وعلى الرغم من أنها أقل مشاركة بشكل مباشر في الاقتصاد الفلسطيني، إلا أنها تتمتع بعلاقات وثيقة مع الداعمين الرئيسين لكل من السلطة الفلسطينية (دول الخليج)، و"حماس" (إيران). ومن الناحية النظرية، قد تستخدم الصين هذا النفوذ للوساطة، وهو الأمر الذي من شأنه أن يكسبها شهرة دولية ضخمة إذا تمكنت من تحقيق ما استعصى على الولايات المتحدة على مدار ثلاثة عقود من الزمن.
ومع ذلك، فإن هذا ليس "بابا مفتوحا" وتظل الأطراف المتحاربة متعارضة بشكل أساسي في مجالات متعددة. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من كل تجارتها المتزايدة مع الصين، تظل إسرائيل ثابتة في معسكر الولايات المتحدة ولن تتخلى عن ذلك للتوصل إلى اتفاق بوساطة بكين. وحتى لو تمكنت الصين من تحدي الصعاب بطريقة أو بأخرى والإشراف على وساطة ناجحة، فإنها سوف "تمتلك" الصفقة وقتها وتكون مسؤولة عن تنفيذها كما فعلت الولايات المتحدة منذ عام 1993. وستكون بكين حذرة من الانجرار إلى المستنقع الفلسطيني.
وهذا من شأنه أن يتعارض أيضا مع استراتيجية الصين الدولية في العقود القليلة الماضية. لقد أبدت بكين الحذر والانتقائية العالية في مشاركتها الخارجية. وهي تستثمر عموما فقط في المجالات التي من المرجح أن تشهد عائدا، سواء كان اقتصاديا أم دبلوماسيا. وقد أدى ذلك إلى اعتماد الوساطة كتكتيك فقط في المجالات التي يبدو من المرجح أن تنجح فيها والتي ستحقق فوائد اقتصادية و/أو استراتيجية قابلة للحياة. ومن المؤكد أنها لم تتبن الوساطة باعتبارها عقيدتها الجديدة، وبالتالي فإنها لن تعرض التوسط إلا عندما تكون هناك فائدة واضحة للصين. وتبدو غزة في الوقت الحالي محفوفة بالمخاطر للغاية بالنسبة للصين التي تتجنب المخاطرة، وبالتالي من المرجح أن تبتعد بكين عن الأمر بشكل واضح.