الغزّيون خلال الهدنة... حلم "العودة" ولو لليلة واحدةhttps://www.majalla.com/node/305276/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D9%91%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AF%D9%86%D8%A9-%D8%AD%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%88%D8%AF%D8%A9-%D9%88%D9%84%D9%88-%D9%84%D9%84%D9%8A%D9%84%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D8%AD%D8%AF%D8%A9
مع بدء سريان الهدنة الإنسانية بين حركة "حماس" وإسرائيل، صباح الجمعة 24 نوفمبر/تشرين الثاني، توجه العشرات من الغزيين النازحين من المناطق الشرقية لجنوب قطاع غزة إلى منازلهم، تاركين خلفهم مراكز الإيواء وخيامهم، فيما بقي أكثر من مليون نازح من مدينة غزة وشمال القطاع في أماكن نزوحهم لعدم قدرتهم على الوصول إلى أحيائهم ومنازلهم التي لا يزال الجيش الإسرائيلي يجتاحها بدباباته وآلياته العسكرية.
وكان كل من "حماس" وإسرائيل قد أعلنا التوصل إلى اتفاق هدنة إنسانية لمدة أربعة أيام، برعاية دول عربية وغربية عدة، يجري خلالها تبادل 50 محتجزا إسرائيليا لدى الحركة، مقابل 150 أسيرا في السجون الإسرائيلية من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى إدخال شاحنات المساعدات الإغاثية إلى قطاع غزة عن طريق معبر رفح البري، ووقود السولار وغاز الطهي بكميات تكاد تكفي الاحتياجات اليومية للغزيين لأيام عدة. وهي هدنة تم تمديدها ليومين إضافيين بشروط الهدنة السابقة نفسها.
وتوجه في اليوم الأول للهدنة، بعض من النازحين من سكان مدينة غزة وشمال القطاع، إلى منطقة الحاجز الإسرائيلي في شارع صلاح الدين، والذي أقامه الجيش الإسرائيلي بالقرب من مفترق مستوطنة "نيتساريم" التي انسحب منها عام 2005، عندما انسحب أحاديا من كل مستوطنات القطاع خلال العام ذاته.
لم يسمح الجيش الإسرائيلي بعودة النازحين إلى الشمال، بل سمح بمرور القادمين من الشمال إلى الجنوب
كان هؤلاء النازحون يعتقدون أنّ الجيش سيسمح لهم بالعودة إلى منازلهم، إلا أن المتحدثين باسمه كانوا قبلها بيوم واحد قد أعلنوا عن عدم السماح بعودة النازحين إلى الشمال، وأنه سيُسمح بالمرور فقط لمن هم قادمون من الشمال إلى الجنوب، وذلك بحسب ما نص عليه الاتفاق مع حركة "حماس". كما أكدوا جهوزيتهم لمواجهة العائدين إلى المنطقة الشمالية التي قالوا إنها منطقة عسكرية ستستكمل فيها الحرب بعد انتهاء الهدنة.
دبابات في الطريق
محمد عبد الواحد، نازح من مدينة غزة إلى مخيم النصيرات وسط القطاع، نزح مع عائلته قبل أسابيع عدة مع اشتداد القصف الإسرائيلي في منطقة سكنه، وقد حاول العودة عن طريق صلاح الدين مع عدد من النازحين الآخرين إلا أنه لم يتمكن من ذلك. يقول لـ"المجلة": "مع اقترابنا من بداية حي الزيتون من الناحية الشمالية الشرقية لغزة، خرجت الدبابات من بين الأشجار واعترضت طريقنا، وفي البداية أطلقت نيرانها بالقرب منا لتفريقنا ومنعنا من الوصول".
إذن اعترض الجيش الإسرائيلي بدباباته وأسلحته طريق النازحين أثناء عودتهم، وأطلق الرصاص لترهيبهم ومنعهم من الوصول، ومن ثم أطلق الرصاص بشكل مباشر على بعض العائدين ليصيب عددا منهم، فيما تمركز عدد من الدبابات على طريق الرشيد- البحر- والخط الفاصل بين شرق القطاع وغربه، جنوبي مدينة غزة، الأمر الذي أفقد العائدين حُلمهم بالعودة إلى منازلهم.
وكان عبد الواحد (37 عاما)، يحلم بالعودة وينتظر الإعلان عن وقف إطلاق النار حتى يستطيع العودة مع عائلته والاطمئنان على منزلهم وجيرانهم وأقاربهم، إذ فقد الاتصال بعدد كبير منهم خلال نزوحه إلى مركز إيواء في وسط القطاع. كما أنه افتقد وعائلته الكثير من الحاجيات التي كانت متوفرة في المنزل؛ "كنا بحاجة إلى بعض الأغطية والفرش الإضافية، وبعض الألبسة. هنا الأسعار مرتفعة والمواد الغذائية شحيحة".
لم تغادر الغالبية العظمى من النازحين أماكن نزوحها على الرغم من رغبتها في العودة إلى أحيائها ومنازلها
يستغرب عبد الواحد الهدنة الإنسانية التي دخلت حيز التنفيذ بعد مقتل قرابة 15 ألف ضحية من الغزيين، بالإضافة إلى أكثر من 6500 مفقود، وتبادل الأسرى من دون العمل على وقف تام لإطلاق النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي من النصف الشمالي لقطاع غزة. يقول: "قرابة الشهرين ونحن تحت حرب الإبادة للبشر والشجر والحجر، وفي النهاية يتحدثون عن هدنة إنسانية لإدخال مواد إغاثية وتبادل أسرى من دون تمكننا من العودة ولو لبضعة أيام".
هدنة هشة
لم تغادر الغالبية العظمى من النازحين أماكن نزوحها وسط القطاع وجنوبه، على الرغم من رغبتها في العودة إلى أحيائها ومنازلها التي دمرت في غالبيتها، إذ دمرت إسرائيل 46 ألف وحدة سكنية دمارا كليا و234 ألف وحدة سكنية دمارا جزئيا منذ بداية الحرب، كما أن النازحين بحاجة إلى ما تركوه خلفهم تحت التهديد والإجبار على النزوح القسري، حتى لو اضطروا لرفعه من تحت الرُكام. ويقول أنس البابا، من سكان مدينة غزة: "كُنا بحاجة إلى هدنة أو وقف لإطلاق النار لنعود إلى منازلنا التي هُجرنا منها، لا تهمنا التسميات وبنودها، ما يهمنا العودة حتى لو وضعنا خيمة فوق رُكام منازلنا".
نزح البابا (47 عاما) إلى مركز إيواء في مدينة خانيونس جنوبي القطاع قبل أسبوع من سريان الهدنة، إذ اضطر مع كثافة النيران إلى الخروج قسرا من منزله رفقة عائلته والسير نحو طريق صلاح الدين جنوب شرقي غزة، مُرورا أمام الدبابات والجيش الإسرائيلي، وذلك بعد فُقدانهم لأبسط مُقومات الحياة، من مياه ومواد غذائية وخضراوات.
غادر البابا بحثا عن مكان بديل يستطيع فيه توفير المأكل والمشرب لأبنائه، حتى وصل إلى خانيونس، فمكث هناك إلى حين الحديث عن التهدئة وإعلانها. ويشير إلى أنه منذ اليوم الأول للتهدئة لم يجد ما يفعله، فهو يفكر فقط فيما إذا كانت التهدئة ستمتد لأيام عدة كما يُشاع على بعض القنوات الإخبارية، أو ستعود الضربات الإسرائيلية لاستكمال ما بدأته من تدمير للنصف الشمالي من القطاع. ويضيف: "الحيرة أكثر ما يتعبنا خلال فترة الهدنة، وبخاصة مع بعض الأقاويل التي تتحدث عن استمرار الحرب وامتدادها للمناطق الجنوبية وتدميرها كما حدث ويحدث في مدينة غزة والمناطق الشمالية للقطاع".
لم يشمل "منع العودة" سكان المناطق الشرقية جنوبي القطاع
ويصف البابا الهدنة بـ"الهشة"، خاصة بعد أن كادت تنهار في مساء اليوم الثاني، بعد إعلان "كتائب القسام"، الجناح العسكري لـ"حماس"، عن تأجيل تسليم المحتجزين لديها بسبب عدم التزام إسرائيل بأسماء الأسرى الذين اتفق على إطلاق سراحهم، بالإضافة إلى عدم سماحها بدخول شاحنات المساعدات إلى مدينة غزة وشمال القطاع. وهو الموقف الذي قابلته إسرائيل بإطلاق طائراتها الحربية في سماء مُدن القطاع، مساء السبت، لكن مع تدخل الوساطات القطرية والمصرية، جرى الإعلان عن تذليل العقبات واستكمال تسليم الأسرى.
ويقول البابا: "الهدنة ما هي إلا حرب أعصاب، ونحن النازحين الخاسر الأكبر، صحيا ونفسيا وجسديا، نحن من نفقد الأمن والأمان حتى في وقت الهدنة التي يدّعون سريانها".
عودة مؤقتة
قد يكون من نزح من الشمال ممنوعا من العودة أو الاقتراب من منطقته، لكن سكان المناطق الشرقية جنوبي القطاع لم يشملهم المنع في وقت كانوا قد نزحوا من مناطقهم إلى مناطق الوسط والغرب منذ بداية الحرب.
أحمد أبو دقة (29 عاما) من شرق خانيونس، ويمكث في مركز إيواء بوسط المدينة، كان قد انتظر حلول الساعة السابعة صباح الجمعة، موعد بدء الهدنة، ليدير مُحرك سيارته ويتوجه إلى منزله مع زوجته وأطفاله.
وجد أحمد منزله بحالة وسطى، لم يطله القصف. لكن زجاج الشبابيك تهشم بسبب قصف المنازل القريبة، وعمل مع زوجته على تنظيف المنزل الذي كان يحتوي بقايا أطعمة وغازا للطهي، وقرر البقاء والمبيت فيه على الرغم من عدم إعلان وقف إطلاق النار وانتهاء الحرب. يقول: "اشتقت للجلوس في منزلنا، والتحرك داخله بحرية. لم نجد ماء وكهرباء، لكن ذلك أفضل من الجلوس في مدارس الإيواء".
حاول أحمد التعامل اليوم الأول للهدنة وكأنه يوم طبيعي، وكأن كل شيء انتهى؛ الحرب توقفت، والدمار وعمليات القتل أيضا. إلا أنه في مساء اليوم الثاني، ورده اتصال من أحد أقاربه يبلغه بأن توترا أصاب التهدئة ونصحه بالخروج، وعلى عجل حمل وزوجته أطفالهما وبعض حاجياتهم وعادوا مرة أخرى إلى مدرسة الإيواء. يقول: "بعدما اعتقدنا أنّ الحرب انتهت، تأكدنا أنّ شيئا لم ينته وأنّ الحرب لا تزال قائمة. لا نعلم هل سنعود مرة أخرى ونجد المنزل أم كانت الليلة الأخيرة لنا فيه".
ويشير أحمد إلى أنّ التهدئة كانت ستكون فرصة جيدة لو أن هناك التزاما بها من جميع الأطراف، إلا أن ذلك لا يعني انتهاء الحرب، وهو الأهم بالنسبة إليه... "نحن في حاجة فعلية لوقف إطلاق النار، حياتنا تدمرت، أعمالنا توقفت، أبناؤنا لم تعد أجسادهم وصحتهم تساعدهم على احتمال ما هو قادم".