-
كان لا بد لي أن أبدأ الحوار معك من فكرة تعريف نفسك لنا بأنك لبناني فرنسي بعدما عرفك الجمهور وكتبت عنك الصحافة لعقود بوصفك فنانا سوريا؟
ثقافتي لبنانية فرنكوفونية، وأنا فرنسي منذ نصف قرن من أصل لبناني، تابعية مدينة صيدا (حسب تذكرة الهوية وجواز السفر)، جميع أهل والدي من صيدا، وأغلب نشاطي الفني كان في بيروت ابتداء من "غاليري وان" (لصاحبها يوسف الخال) وانتهاء بـ"غاليري روفليه" (جمانة رزق) قبل الصالات الباريسية، أنا أشبه في هذا الوضع شفيق عبود (كان يجمعنا صالون الواقعيات الجديدة) واليوم تنتمي مجموعة لوحاتي في متحف عمان الشهير إلى الجناح اللبناني إلى جانب شفيق عبود وحسين ماضي ورفيق شرف وسواهم.
عملي لسنوات في تدريس التصوير في كلية الفنون الجميلة في دمشق كان بعقد لبناني يتجدّد كل عام وكنت في الوقت نفسه مدرسا في ثانوية الدامور بلبنان، ولم أستطع قبل السفر أن ألبي طلب الجامعة الأميركية بالتدريس مع محمد الرواس من طريق عارف الريس، لأني كنت بدأت أستقر في باريس. عملت أيضا في الإخراج الغرافيكي في العديد من المجلات اللبنانية، والنقد في جريدة "الحياة" لعشر سنوات قبل إغلاقها، وكنت أكتب بشكل منتظم في الصحافة اللبنانية. كنت على صلة وثيقة بصيدا في فترة التفتح الشبابي وأخواني بعضهم مستقر في لبنان وبعضهم في دمشق، نتيجة لأن والدتي سورية حصلت على الجنسية اللبنانية بحكم هوية والدي، الذي كان عمله غير مستقر ومسافر دائما، بينما بيت والدتي وأهلها يغري بالاستقرار في دمشق أغلب الأحيان، وهذا ما يفسر نصف إقامتي في دمشق أغلب الأحيان، ناهيك بعلاقة لوحتي بحكم العشرة بخصائص المحترف السوري. إذا، أنا لبناني الجنسية والسيرة وسوري الانتماء الفني نسبيا.
ترسّخت علاقتي بأصلي اللبناني أثناء إقامتي في فرنسا بسبب عشقي الكبير للبنان وتفاصيل خصوبة ذاكرتي فيه بما لا يتسع المجال للخوض فيه.
ألف وجه ووجه
-
تسكن دمشق أعمالك، فما الجديد الذي كنت تظهره في كل مرة ترسم فيها لوحة من وحي دمشق؟
كما هناك "ألف ليلة وليلة" هناك أيضا ألف وجه ووجه. تنظيمي معماري روحي من الداخل والخارج لأعرق مدينة، إسطنبول العرب (قبل بلدوزر المعماري الفرنسي أيكوشار في الستينات) وهي تنطوي على تاريخ متعدد التأويلات ابتداء من الجامع الأموي في القرن الثامن للميلاد وما قبله، حتى ختام عصر التنوير والنهضة في ما بعد الأربعينات من القرن الماضي، حيث العهد الوطني ما بعد الانتداب وهكذا... تكشف لوحة بريشتي من مقتنيات المتحف الوطني في دمشق تطبيق المنظور المحلي على واجهتها الذي يدعى بمنظر عين الطائر أو العنقاء أو السيمورغ، وتأثري به، ناهيك بتوليفها مع نظيرتها صيدا مدينتي الأصلية.
-
هل استطاعت باريس أن تسكن في أعمالك أيضا؟
تمثيل باريس في أعمالي هو ما أدعوه في العديد من المعارض، الساكن والمسكون بما يخص العاصمة التشكيلية الشمولية التي عانقت نشاطي التشكيلي بتجريده وتعبيرياته ودراستي المعمقة للمنمنمات أو رسوم المخطوطات العربية خلال أكثر من نصف قرن. بالطبع تركت بصماتها الفرنكوفونية على لوحتي ابتداء من الانطباعية وفروعها مثل الوحشية اللونية والتداخل مع الموسيقى الفرنسية.
-
الضوء حاضر دوما في لوحاتك، هل هو حالة فنية تقنية بالنسبة إليك أم يتعدى ذلك إلى الحالة الروحية والفلسفية؟
الضوء أو النور الطبيعي هاجس عام لدى الفنانين الذين تعايشوا مع الفكر الانطباعي وفروعه مثل التنقيطية والوحشية والتعبيرية اللونية والتجريد الغنائي في باريس، وأنا منهم، وذلك لبحثهم عن معادل المدرج القزحي في الأوكتاف السباعي الموسيقي، فبداهة التواصل مع الموسيقى هو الذي قاد إلى التواصل الفيزيائي مع الضوء.
موسيقى اللون
-
قلت ذات مرة إنك وصلت إلى التجريد بشكل تدريجي في الثمانينات "بعد التدمير التدريجي لمعالم المدن القديمة دمشق، صيدا، باريس، القاهرة، وغيرها". فما الذي أظهرته فنيا من وراء الشكل المادي؟
هناك جانبان أو شرطان يشكلان العمل الفني: طرق الأداء النوعي التي ندعوها بالتنزيه الفكري، وطرق الاستلهام من الواقع المعيش بصريا وذاكراتيا، والتي ندعوها بالدلالة السيميولوجية. فإذا تراجعت الدلالة الحضرية مثلا ضمن التيه اللوني والخطي برز التنزيه التجريدي وتراجع التشبيه الدلالي للعناصر المُعرفة أبجديا مثل السماء والبحر والدار والحي، وبالتدريج يصبح اللون في حد ذاته تجريديا وليس ما يمكن أن يشير إليه، مع تراجع هيئة المدينة محل منطق التشريح التجريدي في رصف الألوان والأشكال وهو بمثابة ملخص واختزال للأشكال المحفوظة والمستهلكة ذاكراتيا لأن التجريد أرحب حرية مما هو محصور بالدلالة والتعريف.
-
قال كاندينسكي رائد المدرسة التجريدية إن "التجريد موسيقى بصرية" وفي تجربتك استطعت أن تحول الموسيقى إلى إيقاعات فنية، فكيف بدأت هذه العلاقة مع الموسيقى؟
أحب أن أوضح ما يقصده فاسيلي كاندينسكي في خصوص الفن المعاصر بالتواصل بين الموسيقى والتصوير. تتألف الموسيقى من الإيقاع الذي يتجلّى في اللوحة بسلوك الخطوط وطوبوغرافية التكوين. هذا من جهة، أما الألحان فتقابلها في اللوحة هارمونية المساحات اللونية، بعضها مقامات شرقية أفقية، والبعض الآخر غربي متزامن يعتمد على الكتابة على عدة أسطر يدعى في ديوان باخ بالكونتربوان، أي ثلاثي الأبعاد وهكذا.
-
لمن تستمع من الموسيقيين، وكيف تترجم هذا فنيا؟
أعشق في الموسيقى الشرقية ما هو صوفي مثل إنشاد أحمد التوني، ثم مقامات وتجليات وحضرات رياض السنباطي وزكريا أحمد مع أم كلثوم وكذلك سيد درويش وجيله. أما الغربي الأرحب فيأسرني فيه جان سباستيان باخ، وجان سبليوس وبيلا بارتوك وسواهم. أنا على يقين بأن اطلاعي الموسيقي (بما فيه النظري والعملي) أرحب من اطلاعي الأدبي. لذ، تأثير الأول أعمق من الثاني خاصة على المراحل التجريدية.
عالم النقد
-
فضلت أن تسمي كتاباتك التي تُعرف بـ"النقدية" بأنها "كتابة فنية أقرب إلى الفلسفة" تحت هذا العنوان، ما الذي يشدك عادة الى الكتابة عن فنان أو حالة فنية؟
هناك نوعان من الكتابة الفنية: النقد الفني المشتق من النقد الأدبي والصحافة وهو الأوسع انتشارا، على الرغم من أنه لا يعتبر مادة بحثية أو دراسية لأنه وافد من مادة غريبة عن الفن، أثبت هذا إساءة إميل زولا إلى بول سيزان في إحدى رواياته مما أخّر تذوقه سنوات عدة.
المادة الثانية التي تزداد سلطة معرفية والتي يمارسها على الأغلب الفنانون الممارسون للمهنة مثلي، هي فلسفة علم الجمال. أنا أتبع منهج اتين سوريو: علم الجمال المقارن. بذلت تسع سنوات في جامعة السوربون حتى حصلت مرتين على دكتوراه دولة. الأولى مقارنة بين الأربيسك والسينيتيك، والثانية مقارنة بين المقامات والطرز الزخرفية في الصناعة العربية الإسلامية خاصة حياكة البسط والسجاجيد. في النتيجة، لديّ أرشيف غني جدا من الأمثلة، لذا أفضل صراحة في الكتابة الفنية هذا النموذج من الممارسة العلمية المخبرية والنظرية المقارنة لشموليتها.