في تطور تاريخي، أصدرت محكمة فرنسية مذكرة اعتقال دولية بحق الرئيس السوري بشار الأسد بتهمة التواطؤ في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في خطوة غير مسبوقة لكونها أول حالة لمذكرة اعتقال يصدرها القضاء الفرنسي وتستهدف رئيس دولة في منصبه، بسبب مثل هذه الجرائم الخطيرة التي ارتكبت في بلد آخر.
وجاء القرار في توقيت مهم، لأنه يأتي قبيل انعقاد الدورة الثامنة والعشرين للقمة العالمية للعمل المناخي (COP-28)، المقرر أن تبدأ في 30 نوفمبر/تشرين الثاني، حيث دعت الدولة المضيفة، الإمارات العربية المتحدة، الأسد للحضور.
ومن المهم أن نتذكر هنا أن بين فرنسا والإمارات العربية المتحدة معاهدة نافذة لتسليم المجرمين. ومع ذلك، فإن تنفيذ أوامر الاعتقال في المعاهدات الدولية غالبا ما يعتمد على تقدير الدول الأعضاء بشكل منفرد. وبالتالي، فإن السؤال الحاسم المطروح الآن هو هل سيُسمح للرئيس السوري فعلاً بحضور القمة رغم مذكرة التوقيف الصادرة بحقه؟ الإجابة على هذا السؤال ستسلط الضوء على دور البروتوكولات الدبلوماسية والاعتبارات القانونية الدولية في هذا الوضع غير المسبوق.
هناك شكوك باقية بين المحللين والمدافعين عن حقوق الإنسان فيما يتعلق بإصدار فرنسا للنشرة الحمراء ونقلها بشكل صحيح
بدأت العملية التي أدت إلى إصدار مذكرة التوقيف بشكوى قُدمت في مارس/آذار 2021 ضد مسؤولين في النظام السوري بزعم تورطهم في استخدام أسلحة كيماوية محظورة في مدينة دوما وضواحي الغوطة الشرقية بدمشق في أغسطس/آب 2013. قدم الشكوى المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، بدعم من منظمات مختلفة، وتلى ذلك تحقيق موسع أجرته الوحدة المتخصصة في الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب التابعة لمحكمة باريس القضائية على مدى ما يقرب من ثلاث سنوات. نظر هذا التحقيق في مجموعة كبيرة من الأدلة، بما في ذلك تقارير استخباراتية رفعت عنها السرية، ومدخلات من الهيئات الدولية، وشهادات الضحايا، وتحليل المعلومات المتاحة للجمهور، والوثائق المرئية مثل الصور ومقاطع الفيديو.
واستنادا إلى النتائج المستخلصة، انتهى القضاة الفرنسيون إلى قناعة بأن الأدلة التي بحوزتهم كافية لإصدار أوامر اعتقال بحق بشار الأسد، وشقيقه ماهر، والجنرال غسان عباس، والجنرال بسام الحسن، لتورطهم في الهجمات الكيماوية على الغوطة، وبالفعل أصدروا أوامر الاعتقال في 15 نوفمبر/تشرين الثاني.
بيد أن إصدار مذكرة الاعتقال غير المسبوقة هذه ضد الرئيس السوري، وهي الأولى من نوعها من محكمة وطنية ضد رئيس دولة أخرى في منصبه، يسير في منطقة مجهولة ضمن الإجراءات القانونية في فرنسا. ويتناقض هذا التطور بشكل صارخ مع الموقف التقليدي للنظام القانوني الفرنسي، الذي يدعم عادة حصانة رؤساء الدول. وأكثر من ذلك، يتجاوز تنفيذ هذا المذكرة الاعتبارات القانونية ويتعمق في التعقيدات السياسية المتداخلة فيما يخص فرنسا والدول المعنية الأخرى. وفي جوهر الأمر، فإن المسار المستقبلي لهذه القضية يتوقف على الإجراءات والقرارات التي اتخذتها السلطات الفرنسية وغيرها.
ومن الناحية العملية، فإن هذه المذكرات تجبر سلطات إنفاذ القانون الفرنسية على إلقاء القبض على المشتبه بهم وتقديمهم للمحاكمة. ونظرا للنطاق العالمي لمذكرة الاعتقال، فإن فرنسا ملزمة بإشراك الإنتربول لإصدار نشرة حمراء بحق المطلوبين، تطلب من وكالات إنفاذ القانون في الدول الأعضاء البالغ عددها 195 دولة اعتقال المشتبه به. على أن الامتثال للنشرة الحمراء ليس تلقائيا، فغالبية الدول الأعضاء تقدم قوانينها الوطنية، خاصة عند التعامل مع محاكمة رئيس دولة حالي، وهي مهمة صعبة بسبب النفوذ السياسي للرؤساء. ونتيجة لهذا فإن احتمالات القبض على رئيس دولة أثناء توليه السلطة ومحاكمته تظل ضئيلة، وهو ما يسلط الضوء على الرمزية السياسية لمذكرة الاعتقال أكثر من عواقبها القانونية المباشرة.
وفي الوقت الحاضر، هناك شكوك باقية بين المحللين والمدافعين عن حقوق الإنسان فيما يتعلق بإصدار فرنسا للنشرة الحمراء ونقلها بشكل صحيح. وإذا تبين أن هذا هو الحال بالفعل، فقد يُعزى ذلك، من بين عوامل أخرى، إلى اعتبارات سياسية تهدف إلى تجنب الضغط على الإمارات العربية المتحدة. وحتى دون النشرة الحمراء، تحتفظ وزارة الخارجية الفرنسية بخيار الاستفادة من اتفاقاتها القانونية مع الإمارات العربية المتحدة وتقديم طلب تسليم رسمي إلى وزارة العدل الإماراتية إذا تم تأكيد وجود الأسد في الإمارات العربية المتحدة. ومع ذلك، يتساءل كثير من المتشككين عما إذا كانت فرنسا ستتخذ مثل هذه الخطوة أم إنها ستفضل تأجيل مثل هذا الطلب إلى ما بعد رحيل الأسد لتجنب وضع الإمارات في موقف صعب.
حتى لو لم يكن من الممكن تنفيذ مذكرة الاعتقال ضد الأسد، فلا يزال هناك احتمال لإجراء محاكمة غيابية في فرنسا
بشكل عام، ترسل مذكرة الاعتقال رسالة جلية وواضحة إلى الأسد، والأفراد الآخرين المتورطين في جرائم الحرب، بأن المجتمع الدولي يزداد عداؤه تجاه أولئك الذين يرتكبون أفعالًا بشعة مثل هذه، مما يجعل من الصعب عليهم التنقل بحرية دون مواجهة خطر العواقب القانونية.
وبغض النظر عن مسار العمل الذي اختارته فرنسا، فإن القرار النهائي يقع على عاتق الإمارات العربية المتحدة. وقد تستفيد الأخيرة من القنوات الخلفية لتزويد الأسد بفرصة إلغاء حضوره، مما يسمح له بحفظ ماء الوجه ومنع الإمارات من اتخاذ قرار علني– سواء إلغاء الدعوة، أو اعتقاله إذا حضر، أو تجاهل التزامها القانوني.
وفي حين أن نتيجة هذا الاختبار الأولي تحمل أهمية كبرى، فإن تأثير مذكرة الاعتقال لن يتوقف عند عواقبها المباشرة، ذلك لأن مجرد وجود مذكرة الاعتقال سيكون على الدوام عائقا أمام قدرة الأسد على السفر إلى أي بلد يمكن أن يواجه فيه إمكان تسليمه، خاصة خلال الفترة التي تتزايد فيها جهود التطبيع الإقليمية. وسوف يعطل ذلك على الأرجح التقدم الذي أحرزته دمشق في تحسين علاقاتها الدولية.
وحتى لو لم يكن من الممكن تنفيذ مذكرة الاعتقال ضد الأسد، فلا يزال هناك احتمال لإجراء محاكمة غيابية في فرنسا. مثل هذا الإجراء القانوني سيشكل خطوة مهمة إلى الأمام بالنسبة لمئات الآلاف من ضحايا جرائم الأسد.
وبشكل عام، تحمل مذكرة الاعتقال رسالة لا لبس فيها إلى الأسد وغيره من مجرمي الحرب: لقد أصبح العالم على نحو متزايد أقل تحملا لأولئك الذين يرتكبون مثل هذه الفظائع، الأمر الذي سيحدّ من قدرتهم على التحرك دون مخاوف.