بول لينش الفائز بـ "بوكر" لـ"المجلة": عالمنا يحفل بالمرايا الكاذبةhttps://www.majalla.com/node/305196/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A8%D9%88%D9%84-%D9%84%D9%8A%D9%86%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%A6%D8%B2-%D8%A8%D9%80-%D8%A8%D9%88%D9%83%D8%B1-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%A7-%D9%8A%D8%AD%D9%81%D9%84-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D8%B0%D8%A8%D8%A9
لا يعتبر الكاتب الأيرلندي بول لينش نفسه روائيا سياسيا، لكنه مهتم بالمشاكل الإنسانية وبما يسميه العمى الفلسفي، وهذا ما يجعل منه، وهو المولود في 1977، وبعد خمس روايات، أحد أشهر الروائيين الغربيين المعاصرين. فازت روايته الأخيرة، "أغنية النبي"، بجائزة "بوكر" الدولية أخيرا. وحصلت روايته الأولى "سماء حمراء في الصباح" على تقدير نقدي، كما فازت روايته "غريس" بجائزة رواية العام الأيرلندية وجائزة ويليام سارويان الدولية، وأدرجت ضمن القائمة القصيرة لجائزة جان مونيه للأدب الأوروبي في فرنسا. عمل ناقدا سينمائيا وكتب بانتظام في جريدة "صنداى تايمز" قبل أن يقرر التفرّغ للكتابة الأدبية. هذا الحوار أجرته معه "المجلة" قبل إعلان فوزه بجائزة "بوكر".
تعد "أغنية النبي" أحدث أعمالك، رواية ديستوبية، تدور أحداثها في وقت غير معلوم في أيرلندا. تناقش أمومة إيليش ستاك، التي تحاول حماية أطفالها الأربعة من المجتمع المنهار والحرب الأهلية. وهي الصدمة التي يعاني منها العديد من العائلات حول العالم. ما الذي دفعك إلى كتابة هذه الرواية؟
في أواخر تسعينات القرن الماضي، كنت في مطلع العشرين من عمري، قرأت رواية هيرمان هيسه"ذئب البوادي"، التي صدرت عام 1927، وفي الرواية يتنبأ بطلها هاري هالر، بالدمار الكبير الذي سيحلّ بأوروبا في معرض وصفه الانقسام السياسي والعنصرية وكراهية الأجانب التي كان يلاحظها في ألمانيا خلال تلك الفترة. في التسعينات، بدا هذا العالم رائعا وغريبا بالنسبة إليّ. لكن في عام 2018، عندما أعدت قراءة الكتاب، وهذه هي قيمة إعادة قراءة الأدب الكلاسيكي، إذ لن تكون القارئ ذاته مرتين البتة - شعرت بالقشعريرة، واتضحت لي الرؤية أننا في الغرب نعيش الآن في مثل تلك الأوقات الخطيرة.
لم تعد الديموقراطيات الليبيرالية الغربية مستقرة كما افترضنا دائما، وشهد العديد من البلدان الأوروبية توجها نحو اليمين مع صعود القومية الدفاعية ردا على محنة اللاجئين السوريين الذين يتدفقون إلى أوروبا. كان هناك أيضا شعور بأن إجماع الواقع، أي العالم الذي اتفق عليه الكثيرون منا على أنه حقيقي - ما هو الخبر، ما هي مصادر الأخبار - لم يعد متفقا عليه. لقد شجع الإنترنت على خلق العديد من المرايا الكاذبة التي يحفل بها عالمنا، وهذا ما أدى إلى كشف الفكر الحديث الذي يقود الكثيرين إلى التفكير التآمري. هناك طبقات عديدة في هذا الكتاب، لكن أحدهم يتساءل: إلى أين يمكن أن يؤدّي كل هذا؟
لم تعد الديموقراطيات الليبيرالية الغربية مستقرة كما افترضنا دائما، وشهد العديد من البلدان الأوروبية توجها نحو اليمين مع صعود القومية الدفاعية ردا على محنة اللاجئين السوريين
أقول ذلك كله، لأني لا أستطيع تقديم إجابة مباشرة عن الدافع وراء كتابة الرواية. لست روائيا سياسيا. لا أجلس إلى منضدة الكتابة وفي ذهني مظلمة أحتاج إلى معالجتها. لكنني مهتم بالمشاكل الإنسانية، والميتافيزيقا، ومشاكل الحياة والموت، والعمى الفلسفي. تحفزني هموم إنسانية عميقة وأبدية، لكن عندما بدأت بكتابة هذه الرواية، كنت منفتحا أكثر من المعتاد على العالم الحديث، مما سمح للفوضى الحديثة بالتدفق إليه.
جائزة بوكر
رشحت "أغنية النبي" ضمن القائمة القصيرة لجائزة بوكر. كيف شعرت عندما تلقيت الخبر؟
جائزة بوكر تغير كل شيء بالنسبة إلى الكاتب. والوصول إلى القائمة القصيرة بها شرف ومعجزة صغيرة في حد ذاتها وأنا ممتن لذلك. بالطبع، إذا أدرجت روايتك في القائمة القصيرة للحصول على جائزة، فإنك تتساءل بينك وبين نفسك عما إذا كنت قد تفوز بها، ولكن حقيقة الأمر هي أن أيا من الكتّاب الستة الموجودين في تلك القائمة يمكنه الفوز بها. أن تكون روايتك ضمن القائمة القصيرة، تشعر وكأنك ممتلئ بطاقة السباق، لكن كتابك مكتوب بالفعل فلا يوجد ما يمكنك القيام به ولا ميدان لخوض السباق.
رُشحت رواياتك لجوائز مرموقة، وحصلت على جائزتك الأولى عام 2006، هلا شاركتنا مشاعرك حينها؟
على عكس العمل في مجال الموسيقي والتمثيل التي يستمتع أصحابها بالتصفيق بعد الأداء، يعمل الكاتب بمفرده لأشهر وسنوات في كل مرة، محدقا من النافذة إلى الحديقة. لم يطلب منك أحد أن تكتب الكتاب، وهناك دائما مخاطرة هائلة بأنك تبني جسرا فوق العدم على أمل أن يحمل القراء إلى جزيرتك الخيالية. وهكذا عندما تُرشّح لجائزة، فإن ذلك يكون بمثابة جولة من التصفيق، وتربيتة على ظهر الكون، واعتراف بأن هذا الجسر الذي قمت ببنائه سيصمد.
المجاعة والبقاء
"غريس" هي رواية تاريخية عن البقاء، تناقش الأوقات الصعبة التي عانت منها غريس بطلة الرواية خلال المجاعة الكبرى في أيرلندا حيث عاشت كصبي من أجل البقاء على قيد الحياة. خلال أسفارها انضمت إلى آخرين في الطريق فعرفت شخصيات طيبة وأخرى عنيفة، فهل سمح لك تنوع أنواع الشخصيات بكتابة نص أكثر شمولا؟
"غريس" هي رواية عن الصمت، عن حالة الصمت التي بقيت حتى يومنا هذا في أيرلندا في ما يتعلق بالصدمة الوطنية الكبرى التي تعرّضنا لها خلال المجاعة الأيرلندية في أواخر أربعينات القرن التاسع عشر. من جيل إلى جيل، توارثنا الصمت واعتمد الأيرلنديون موقف الإنكار، وفي الواقع فشلنا في الاعتراف: لم تحدث المجاعة لنا، بل حدثت لعائلات أخرى، أو في بلد آخر. نحن أمة من الناجين، ومع ذلك لا توجد قصص غير تلك الفولوكلورية التي جمعت في عشرينات القرن الماضي، والعديد من تلك القصص يتخذ شكل الأسطورة. ما مصدر هذا الصمت؟ ماذا فعل الناس من أجل البقاء؟ إن الاختباء في هذا الصمت، في طبيعة الحال، هو صدمة أو عار لأولئك الذين لديهم وسائل البقاء على قيد الحياة. ولكن لفهم المشكلة حقا، كنت في حاجة إلى تقليص المشكلة حتى النخاع. احتجت أثناء كتابة الرواية إلى التوغل في منطقة لم تستكشفها رواية المجاعة الأيرلندية من قبل.
في الوقت نفسه، يمكن أيضا أن نعتبرها رواية عن بلوغ سن الرشد ورواية خيال، وهو الشكل الذي يدعو العديد من الشخصيات إلى الانضمام الى الحبكة. وهكذا، عندما ترسل غريس في رحلة للبقاء على قيد الحياة، فمن حسن حظها أنها تلتقي العديد من الشخصيات الغنية والغريبة. في حين أنني أعتقد أن الرواية تندفع نحو المجال الحديث، فهي في الوقت نفسه بمثابة تكريم لروايات القرن التاسع عشر العظيمة.
"غريس" ليست الرواية التاريخية الوحيدة التي كتبتها، فهناك أيضا "سماء حمراء في الصباح" و"الثلج الأسود"، كيف تستعد لكتابة روايات مبنية على أحداث تاريخية؟
أنا لا أعتبر هذه الروايات تاريخية، بالطريقة التي يُنظر بها عموما إلى مثل هذه الروايات. بالطبع، البحث مطلوب، ويجب أن تعطي فيزياء الكون الخاص بك إحساسا يمكن الاعتماد عليه في الواقع حتى تتمكن من جذب القارئ. لكن رواياتي تستمد معلوماتها من إحساسي الخاص بالأساطير، وهو الأمر الفريد بالنسبة إليّ ككاتب. أنا لست ممن يدمجون تفاصيل غير ضرورية أو مفتعلة في الحبكة كما يحدث في العديد من الروايات التاريخية. يعجبني وصف كونديرا للرواية بأنها "فراغ وجودي يمكن للمرء أن يعمل فيه على شخصية واحدة، ويطرح أسئلة مثل: ما هو الوجود الإنساني؟". عندما تكتب عن فترة ليست زمنك، لديك فرصة لتجريد الرواية من الضجيج المعاصر والتركيز على المشاكل الإنسانية الأساسية.
أثر الحياة
يبدو لي أنك تقتنفي أثر الحياة من خلال رواياتك. ما الذي يلهمك؟
أنظر بعين كونية تخييلية. أرض الصيد الخاصة بي هي المجهول، وغير المتوقع، وكيف يحب غير المرغوب فيه أن يطرق بابنا. كم نتوق إلى الحب والأمان ولكن تلك المعاناة هي نصيبنا. كيف نعيش في الأمل ونسعى إلى الكرامة الإنسانية ونحن نواجه تحديات الحياة. ماذا سنكتشف عن أنفسنا ونحن نتغلّب على أنفسنا؟ أنا مهتم بكيفية تشكيل حياتنا من خلال ضخامة القوى غير المرئية التي تتجاوز وعينا. مع ذلك، علينا أن نتخذ خيارات. علينا أن نعيش، لكننا نعيش بصورة عمياء، ونتصرف بيقين، ولكننا نحصد دائما ما هو غير متوقع.
بالنسبة إليّ، الكتابة هي دحرجة صخرة إلى أعلى التل لسنوات، على أمل ألا تتعثر وألا تنقلب الصخرة عليك وتسحقك
هل تعتقد أن اهتمامك بالسينما ساهم في قدرتك على كتابة روايات تتميز بالمشهدية؟
أتذكر أنني فكرت منذ سنوات عديدة، عندما شاهدت أفلام روبرت بريسون للمرة الاولى، أنني أريد أن اقتبس في نص سردي شيئا من التعبيرات في أفلامه. لم أكن أكتب في ذلك الوقت، على الرغم من أنني شعرت أنني سأفعل ذلك في المستقبل. عندما قرأت كورماك مكارثي بعد فترة وجيزة شعرت بجمالية مماثلة. السلوك البشري عنده يُكشف على نحو مكثف وأنا أقل اهتماما بالسرد الذي يروي كل شيء. أحب أن أعرض قصصي وأطرح الأفكار من خلال الشخصيات التي تتصرّف أمام أعيننا وتتخذ القرارات. مخيلتي بصرية إلى حدّ كبير، وأرى ما أكتب كما لو كان فيلما سينمائيا. لكن بالطبع رواياتي هي أدب، والأدب يتفوق على السينما في كل مرة لأنه يمتلك مجالا أكبر لاستكشاف الجوانب الخفية للحياة الداخلية والخارجية على السواء.
في "غريس" و"أغنية النبي" شخصياتك الرئيسة من النساء. ناقشت من خلال تلك الشخصيات الانتقال إلى مرحلة الأنوثة والأمومة والقدرة على الحماية. أخبرنا المزيد عن هذا.
أتساءل ما إذا كانت الشخصيتان مترابطتين. في "غريس"، أنقل البطلة إلى الأمومة، وفي "أغنية النبي"، أحوّل أمومة إيليش إلى شيء آخر. إنه اعتقادي الشخصي أن القوة الأنثوية التي تسود عالمنا هي قوة موحدة، وهي الغراء الاجتماعي الذي يوحّدنا. إن الرجل، المحروم من القدرة على تنمية إنسان، يجد في نفسه طاقة تنطلق لصنع العالم ولكنها في كثير من الأحيان تتفكك أثناء قيامه بذلك.
بما أنك كاتب متفرغ، هل لديك روتين في الكتابة؟
عندما لا أكون في رحلة ترويجية، أعمل من الإثنين إلى الجمعة، في العاشرة صباحا أذهب إلى غرفة، بعد أن أتناول وجبة الإفطار وأوصل أطفالي إلى المدرسة. أميل إلى العمل لمدة ثلاث إلى أربع ساعات رغبة في التركيز العميق. عادة أبقي هاتفي مغلقا لا افتح البريد الإلكتروني وأتجنب الصحف والإنترنت. أكتب قليلا كل يوم وأميل إلى التعديل أثناء الكتابة، وهناك أيام كثيرة أشعر فيها بالإرهاق التام بعد الانتهاء من العمل. أحيانا أعتبرها علامة على أن الكتابة كانت جيدة. أحسد الكتّاب الذين يستطيعون إنجاز رواية في ثلاثة أشهر. بالنسبة إليّ، الكتابة هي دحرجة صخرة إلى أعلى التل لسنوات، على أمل ألا تتعثر وألا تنقلب الصخرة عليك وتسحقك.