فرضت الهدنة في غزة نفسها، وأصبحت خيارا لا بد منه بعد عجز الجيش الإسرائيلي عن الاستجابة للسقوف العالية التي وضعتها القيادة السياسية في إسرائيل لتحقيق أهدافها الوهمية. وأمام تراجع كثير من القوى الغربية الفاعلة عن مواقفها المتسرعة في ضوء نجاح الإعلام العربي في وضع تفاصيل الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل على مدى سبعة أسابيع في متناول الرأي العام العالمي، تجاوز الفشل الميداني السقوف الزمنية المتاحة وأكره حلفاء إسرائيل على التخلي عما اعتبروه حقا لإسرائيل في الدفاع عن نفسها، كما استنفد كل محاولات الولايات المتحدة في تغطية وتبرير الوحشية الإسرائيلية.
كثيرة هي الدروس المستفادة من الحرب ضد غزة على المستويات كافة، لكن البحث عن الظروف التي أدت إلى الاتفاق على هدنة إنسانية يبدو أكثر جاذبية. لقد بدت الهدنة مستحيلة التحقيق في خضم التصعيد المتعدد المستويات، ثم عادت وفرضت نفسها كمسار أوحد رغم وحشية العدوان والمبالغات الإسرائيلية بتوهم الاستمرار في رفض الاتفاقات الدولية والمبادرات العربية المتصلة بمشروع إقامة دولة فلسطينية، وحتى أي شكل من أشكال السلطة الفلسطينية المستقلة. تمثل الهدنة أمرا واقعا لا يمكن تجاوزه ومنطلقا لمرحلة جديدة من التوازن الفلسطيني الإسرائيلي ضمن إطار عربي فرض نفسه، فما هي مقومات هذه الهدنة وما شروط استدامتها:
أولا: النجاح العربي في السيطرة على مسار التفاوض
هي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها قطاع غزة لعدوان إسرائيلي، لكنها المرة الأولى التي تتنصل فيها طهران من أي صلة لها بالعمليات التي تخوضها الفصائل الفلسطينية تخطيطا وتنفيذا وتسليحا، وهي المرة الأولى التي يصدر فيها الموقف الإيراني عن المرشد علي خامنئي، والذي كرّره وزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان في الأمم المتّحدة وفي كل الجولات الدبلوماسية التي قام بها. الموقف الإيراني لم يكتف بالتنصل من عملية "طوفان الأقصى" بل تنصل من أي وصاية على الفصائل الفلسطينية، مؤكدا على استقلاليتها ومسؤوليتها في اتخاذ القرار الميداني وعلى الدور الريادي لـ"حزب الله".