أورهان باموق وذكريات الجبال البعيدةhttps://www.majalla.com/node/305131/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%87%D8%A7%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D9%85%D9%88%D9%82-%D9%88%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B9%D9%8A%D8%AF%D8%A9
انطلقت منذ بضعة أيام فعاليات"مهرجانمدينة الكتب" في ميلانو BookCityMilano في دورته الثانية عشرة، وهي فعاليات واسعة النطاق، يتشارك فيها الكتّاب والقراء، ليناقشوا الموضوع المخصص لهذا العام، "زمن الحلم". عدد المدعوين كبير جدا، كما في الأعوام السابقة، زهاء 3100 ضيف سيلتقون مع الجمهور في 300 موقع يشمل جميع أنحاء المدينة. ويتناول هذا الحدث الثقافي الهام، الذي تنظمه بلدية ميلانو وجمعية "مدينة الكتاب"، بالتعاون مع مؤسسة "كورييري ديللا سيرا" ودار نشر "فيلترينيللي" و"اتحاد الناشرين الإيطاليين"، عوالم الأحلام في الأدب والعلوم والفنون، والتطرق أيضا إلى الكوابيس الحقيقية التي شهدتها الإنسانية خلال هذه السنوات، كالحروب التي فاقت همجيتها كل تصور، والوباء، وتغير المناخ، ومحاولة إعادة التفكير في مستقبل البشرية، على الأقل من الناحية الأدبية. ولتحقيق ذلك، وزعت اللجنة المُنَظِّمة هذه اللقاءات بين المكتبات العامة والخاصة والمتاحف والمسارح والسجون والمستشفيات والجمعيات غير الربحية والجامعات.
من بين مشاهير المدعوين هذا العام، الكاتب التركي أورهان باموق، الحائز على جائزة نوبل عام 2006، الذي حضر ليلة الافتتاح في مسرح "دالفيرمي" يوم الأربعاء 15 نوفمبر/ تشرين الثاني وتسلّم ختم المدينة من رئيس بلدية ميلانو جوزيبي سالا. وكانت مناسبة أيضا لتقديم كتابه الجديد "ذكريات الجبال البعيدة"، في ميلانو، ثم في جولة تضم بعض المدن الإيطالية الرئيسة. يكشف باموق في هذا الكتاب عن بعض صفحات من دفاتر ملاحظاته الشخصية المكونة في الغالب من رسوم وكتابات. تشكل المقاطع التي اختارها المؤلف من بين آلاف الصفحات، رحلة عبر الكون وعبر أعماله الأدبية، مدونا فيها الأحداث اليومية والملاحظات الشخصية عمّا شاهده وعاشه في الحياة اليومية، وحواره المستمر مع نفسه ومع شخصياته، حتى تلك التي لم تتبلور في ذهنه بعد.
عندما أكتب كتابا، كلمة بعد كلمة، فإن الخطوة الأولى دائما هي تكوين صورة في ذهني. وأنا أدرك أن مهمتي المباشرة هي توضيح هذه الصورة الذهنية وتكثيفها
أورهان باموق
التخلّي عن الرسم
يعود اختياره هذا، أي مصاحبة النص بالرسوم، إلى المرحلة التي كان يواظب فيها على دراسة الهندسة المعمارية، وممارسة الرسم وفن الخط، إلى أن قرر، في سن الثانية والعشرين، وضع حد لطموحاته كفنان، فأغلق إثر ذلك مرسمه وتخلى عن الفرش والألوان، واختار أن يجسّد طاقته الإبداعية في الأدب. ويظهر حبه للفن في كتاباته النقدية، التي جمعها جزئيا في كتاب "بألوان أخرى"، وأيضا في العناوين "الملوّنة" لبعض مؤلفاته، مثل "القلعة البيضاء" و"اسمي أحمر" و"الكتاب الأسود"، و"المرأة ذاتالشعر الأحمر"، وهي روايات ذات طبيعة بصرية إلى حد كبير، وتكشف عن معرفة فنية تاريخية واسعة وعميقة. إذ غالبا ما يقوم باموق بتضمين رواياته أوصافا تفصيلية، لا تكون بمثابة خلفية أو زخرفة، ولكنها وظيفية للهياكل السردية وتدعم الحبكات بقوة، وهو ما صرح به أخيرا، خلال لقاء صحفي مع جريدة "كورييري ديللا سيرا": "عندما أكتب كتابا، كلمة بعد كلمة، فإن الخطوة الأولى دائما هي تكوين صورة في ذهني. وأنا أدرك أن مهمتي المباشرة هي توضيح هذه الصورة الذهنية وتكثيفها".
يتذكر باموق، الذي شعر في السنوات الأخيرة بالرغبة في العودة لاستكشاف مجالات الممارسة الفنية بشكل مباشر، فكرة إنشاء "متحف البراءة" في إسطنبول، وفي أعمال سيرته الذاتية، التي جمعها جزئيا في الطبعة المصورة من كتاب "إسطنبول"، وفي مجلد "البلقان"، واللوحات التي تتميز بالنهج التقليدي التي بدأ بإصدارها على نفقته الخاصة ابتداء من عام 2007. لا يمكن للمرء إلا العودة إلى هذه الخلفيات لاستيعاب مكنون كتاب "ذكريات الجبال البعيدة"، الذي صدر عن دار نشر "إنياودي" في مقتبل الشهر الجاري. كتاب يوميات، حتما، مع ذلك من الصعب تصنيفه ضمن الفئات الشائعة من المؤلفات الأدبية. فهو قبل شيء، تمرين نصي مصور، تتلامس فيه الكلمات والصور بعضها مع بعض، فتتحد هنا وتتشابك هناك، كاشفة الصلات السرية بين هذه التداخلات. فالرسم يصبح كتابة، والكتابة تصبح رسما، إلى أن ينصهرا في شموليتهما ليصوغا معنى ورؤية تختلف ترجمتها، بصريا ومفاهيميا، من شخص إلى آخر. ولعل رولان بارت كان من بين أفضل النقاد ممّن صاغوا تحليلا بنيويا لهذا التلاحم: "لا شيء يفصل الكتابة (التي تعتبر تواصلية) عن الرسم (الذي يعتبر تعبيريا)، لأن كليهما مصنوع من النسيج نفسه".
يوميات ورسوم
بدأ باموق، لأكثر من عشر سنوات، في ملء الدفاتر الصغيرة كل يوم. أيقونات مصحوبة بالتعليقات التوضيحية، التي هي بدورها مرسومة يدويا، ومليئة بالإشارات كما في المنمنمات البيزنطية المزخرفة، رؤى غير متجانسة يطارد بعضها بعضا على الأوراق، في متوالية مستمرة بين السفر والأماكن: إيطاليا والولايات المتحدة والهند وإسطنبول، التي تشبه مغزل بينيلوبي، تتفكك وتعاد حياكتها باستمرار، بإطلالتها الأزلية على البحر. يتابع الكاتب توسعها وحركتها التي لا تتوقف ليل نهار، ينسخ انسيابية مساجدها وزوايا مآذنها، ويحاول أن يتلمّس روحها في البحر الذي فصلها قسمين، غير أنها تبقى هاجسه الأوحد، ليس في جمالها فحسب، بل في ضجيجها وفي روائحها، وفي لغاتها ولهجاتها التي تنم عن عالم كوزموبوليتاني بامتياز. ومن ثم، العديد من المشاهد التي تأملها في يوم ما من نافذة شقته أو من كوة الطائرة. البحر وفي الخلفية الجبال والأخبار السياسية والتوترات في تركيا. وأخيرا الورشة المفتوحة لمتحف البراءة، والطقوس الخفية وراء كل رواية، التي تفصح عن بعض جوانب مختبر الكاتب.
ستعرض مجموعة مختارة من هذا الأرشيف (12 كراسا) في معرض برعاية إدواردو بيبينو، يستضيفه غاليري "ديل لابيرينتو" في فونتانيلاتو (من 18 نوفمبر/ تشرين الثاني إلى 17 مارس/ آذار). محاولة أشبه ما تكون بفرضيات متقلبة ومراوغة للحفاظ على أجزاء من الحاضر في أرشيف الذاكرة، لا تخلو من الهجرات الشبيهة بالحلم واللحظات الحزينة. وحتى لو تخطينا هذه الفرضية، فيمكن إعادة تتبع سجل القصاصات هذا كأداة، حيث يتم التعامل مع الوقت بشكل شاعري، كمادة يمكن إعادة تشكيلها إلى ما لا نهاية.
تتلامس الكلمات والصور بعضها مع بعض، فتتحد هنا وتتشابك هناك، كاشفة الصلات السرية بين هذه التداخلات
روائيّ ولي غرائز
وبطبيعة الحال، يقول باموق في اللقاء الصحفي الآنف الذكر، "أنا روائي، ولكن لدي غرائز لا أستطيع السيطرة عليها. هناك أوقات في حياتي كل ما أريد القيام به هو كتابة شيء ما في مذكراتي. لكنّ هناك أوقاتا أخرى كل ما أحتاج إليه فيها هو الرسم. أفتح صفحة، وتبدأ يدي في العمل. أحيانا أشعر بالاكتئاب قليلا، واستخدام الألوان والرسم يفرحني. يجب أن أعترف أن بداخلي رغبة كبيرة في الكتابة والرسم. ولكن ثمة فرقا. عندما أكتب لا أستطيع الاستماع إلى الموسيقى: فأنا أركز، وأحلّل، وأعاني قليلا. ولكن عندما أرسم، أشعر بالسعادة. علاوة على ذلك، أكون أقل عقلانية في تلك اللحظات، لأنني أتوافق مع حركات جسدي. لهذا السبب أحب حقا الفن التنقيطي والتعبيري. بالنسبة إليّ، الفن المفاهيمي ليس فنا: إنه مركّب ومتصنع. الرسم الذي يهمني له علاقة بالبعد الجسدي. لقد قمت بتنظيم المواد في هذا الكتاب، وفق معيار غير زمني. علاوة على ذلك، غالبا ما أحبّ التدخل في الصفحات المدونة سابقا. اليوم أستطيع أن أفتح دفترا منذ عشر سنوات وأرسم واضيف تخيلات أخرى بداخله. لقد تعلمت هذه التقنية من هنري ديفيد ثورو، وهو كاتب مذكرات أميركي، ماهر في إضافة نصوص جديدة إلى المذكرات المملوءة بالفعل. نكتب عادة ملاحظات عن أيامنا، ونغلق مذكراتنا ولا نعود أبدا إلى تلك الصفحة. لكنني أعود إلى صفحاتي بالرسومات والأيقونات والسياقات ذات الصلة".
في الخلفية، تحضر حياته الخاصة، طقوسه كروائي، لقاءاته وكتاباته وأسفاره وإسطنبول التي لا تفارقه أبدا، وتقارير عن حالته المزاجية أثناء رحلاته الطويلة للترويج لكتبه وزياراته المكثفة للمتاحف. وكان التحدي الأصعب الذي واجهه هو أن يجعل المكان الحقيقي مكانا غامضا، مما يوحي بوجود عالم آخر مختبئ داخل العالم الذي يعيش فيه، والبحث الدائم عن العلاقة الموجودة بين المرئي وأي مكان آخر. يضيف بهذا الصدد: 'الجبال البعيدة' هو تعبير باللغة الصينية يحدّد نوعا من رسم المناظر الطبيعية. ولكنه يشير أيضا إلى فكرة رومانسية، إذ أنه يستحضر مكان أحلامك، حيث تريد أن تذهب، ولكنه مكان لم تزره قطّ. إنه يلمّح إلى فكرة وجود مكان يمكنك التوجه إليه. يتجه الحجاج نحو الجبل البعيد ليكتشفوا ما يوجد على الجانب الآخر. يقترح الكتاب أنه على الجانب الآخر هناك فردوس تتحد فيه الصور والكلمات. هذه هي النقطة التي يلامسها كتابي. لكنني لا أريد أن أشرح المزيد".
يكشف باموق، من خلال الرسوم الرائعة التي تصاحب الكلمات، عن موهبته الفنية الاستثنائية. ومع أنه ترك هذا الشغف جانبا وآثر الأدب عليه، إلا أنه استطاع في النهاية أن يجمع بين هذين الشغفين
يعهد المؤلف القصص اليومية إلى أوراق هذه الدفاتر الشخصية الصغيرة، مضمّنا إياها أصدق التأملات في الشؤون الحياتية، ويسترجع في الوقت نفسه العواطف والأحاسيس التي يقدمها العالم بمناظره الطبيعية الرائعة. ليلة بلا نوم فريسة للمخاوف بشأن إنشاء متحف البراءة، أو الإقامة في الهند، أو التنزّه في إسطنبول المألوفة التي تعتبر مع ذلك مصدرا لا ينضب للدهشة، أو التدريس في الولايات المتحدة، أو حتى سحر إيطاليا. ثم الفزع من قراءة بعض الأخبار الواردة من تركيا، والتوترات السياسية، والتهديدات، والرغبة في التعبير عن الذات بحرية، مصحوبة بمخاوف عما ستؤول إليه الأمور بعد هذه الانتخابات أو تلك. ولكن أيضا متعة السباحة في اتساع البحر وتخيلاته عن القصص التي سيكتبها، أو السعادة في تأمل الجبال البعيدة من نافذة منزوية، في لوحة فنية، في حلم جميل تمنى لو أنه يعيشه أبد الدهر.
يكشف باموق، من خلال الرسوم الرائعة التي تصاحب الكلمات، عن موهبته الفنية الاستثنائية. وعلى الرغم من أنه ترك هذا الشغف جانبا وآثر الأدب عليه، إلا أنه استطاع في النهاية أن يجمع بين هذين الشغفين ويجعلهما يعيشان معا، دون أن ندري أيهما كان منبع إلهام للآخر.