يفتتح الفيلم بمشهد ينعش المتلقي ويستمر لمدة تقارب النصف ساعة، تقوم فيه يوجين (جولييت بينوش) ودودين (بينوا ميغاميل) والمساعدة فيوليت بإعداد مائدة بأكملها. يدخلنا آن هونغ من خلال هذا المشهد في تفاصيل الفعل ذاته، ليسلط الضوء عبر حركة الشخصيات الصامتة والتركيز الشغوف على الإبداع في العملية، وتتجلى الجماليات الحقيقية في التناغم البيّن بين يوجين ودودين الذي يشبه الرقص في تلك المساحة، ويلمع بمظهر المتعة الواضحة على يوجين وهي تعدّ الأطباق دون تذوقها، وبين تقطيع وخلط وسكب وخفق، تضفي الطبيعة عبر ضوء النهار المتسلل إلى المكان شعورا نقيا للفعل، محمولا بخصائص بصرية طبيعية تشبه اللوحات الباروكية لجان سيمون شاردان، وكل هذه الحركة قائمة أمام عيني الطفلة ماغوت، التي تنخرط شيئا فشيئا في مراقبتها الصامتة.
ترسم هذه البداية وبشكل مباشر عملية التلقي باعتبار أننا أمام تصميم الفعل وهندسة الحركة، لكن الفيلم يدفع بوصفات دودين ومهارة يوجين إلى عمق منساب، يقبض آن هونغ من خلاله على المناخ الذي يتولّد في العاطفة الصامتة بينهما والمشاعر الدافئة التي تملأ المكان. إذ تجسّد العلاقة بينهما عمليا علاقة التكامل بين الذوّاقة صاحب الفكرة والنظرية، والطاهية التي تنفذ الأفكار وتبعث الحياة في الكلمات، إلا أن العلاقة تتخطى هذا المفهوم من خلال التماسنا التعقيد المستقر في المساحة التي تتحكم بها يوجين، وهذا ما سيمنح الطبخ والتذوق واستشعار اللحظة معنى يتجاوز مفهوم التكامل، إلى السعادة اليومية التي تضيف مذاقا إلى الكلمات الحركات، والأهم من ذلك إلى الأشياء.
درجات الحب
فالحب المتبادل والمصحوب بفهم يصل إلى أصغر تفاصيل الطهي يأتي هنا تعبيرا عن أكثر درجات الحب سموا، ومركزية الطبخ في العلاقة تزيد من نقائها، واعتماد الاطباق أداة للعطاء يخلق أصالة في طبيعتها غير المتكشّفة، إذ أن أكثر لحظات السينما اغراء تأتي دائما في مشاهدة التناغم غير المصرح به، وهذا ما سيغذي بدوره فضول المتلقي للتطور المنتظر في نسيج هذا العمل. لكن في مبدأ الحب عند يوجين تأتي السعادة والمتعة اليومية، والأهم من ذلك، الشغف الذي يجعل هذه الحياة ساحرة، وتغني في نظرها عن الزواج الذي يقترحه دودين، فلا داعي بالنسبة إليها إلى تغيير الأحوال في الوقت الذي تسير به الأمور برضا، والأهم من ذلك كامنٌ في الطمأنينة التي تغطي الجو العام لهذا العمل.
لكن ما أن تتوالى مشاهد الفيلم، حتى تفوح رائحة القلق على سطح أحداثه عبر سقطات يوجين المفاجئة إزاء مرض غامض، يلوث الصفاء، ويعكر المزاج المستقر، وحماسة الشغف. تبذل يوجين جهدا لعدم إظهار آثار ذلك، لكيلا يخدش الصفاء التي تتحرك به ديناميكيات هذه الحياة، كما يسعى تران آن هونغ كذلك لئلا يكون المرض الإشكالية، لكنه يحتفظ بنوع من الخصوصية التي تتماهى مع رغبة يوجين بإخفاء ذلك حتى وإن كانت الشخصيات المحيطة بها شاهدة عليها.
هنا يظهر التسلسل الأروع في الفيلم حينما تتحول المراكز وتتبدل الأدوار بين دودين ويوجين، في أمسية يصبح دودين الطاهي فيها ويوجين هي الذواقة. وعلى عكس المتعة الخالصة التي كانت عند يوجين أثناء طهيها، يظهر لنا دودين في توترات السكب وعناء التقطيع وقلق النتيجة، التي تكون حصيلتها دفء يتفجّر حين يقدم هذه الأطباق الى يوجين الغريبة على هذا الدور، لتأخذ لفتات العطاء إلى منحنى تقديري وامتناني، وتأتي قلة الكلمات وهدوء المشهد ليفسحا مجالا لأداء بالغ الروعة لكل من بينوش وميغاميل.
فمن خلال هذا العمل، يجسّد تران آن هونغ الطهي وسيلة لتجاوز الكلمات، وفنا يستخدم للإفصاح عن الصمت، عن لفتة عطاء، ونقطة التقاء، ولغة تعبّر عن أعمق المشاعر، وفي النهاية؛ نتأرجح في هذه الرحلة بين لذة اللحظة اليومية وخشية فقدانها عبر تجربة تصبح الأطباق فيها صورة سينمائية تتجاوز الحواس وتستقر في قلب المتلقي.