في مثل هذه الايام من العام المنصرم انبثق فجر جديد للذكاء الاصطناعي وسطع نجم "تشات. جي. بي. تي." ليشكل هذا التطبيق محطة جديدة في عالم الذكاء الاصطناعي وينتقل مفهومه إلى مستوى شعبي وجماهيري غير مسبوق، بعدما كان حكرا على خبراء قطاع التكنولوجيا المتطورة والعاملين في مختبرات البرمجة الحاسوبية أو العسكرية. منذ ذاك التاريخ صار للذكاء الاصطناعي، وأول حرفين منه باللغة الانكليزية (AI) اختصار لـ "Artificial Intelligence"، شعبية غير مسبوقة، مما أحدث انقلابا واضطرابا أديا إلى خلط الأوراق (Disruption) في صناعة التكنولوجيا، وإثارة نقاشات وعصف فكري وتخوفات، شملت الجامعات والطلاب والشركات والحكومات والإعلام ووسائل التواصل و"ترنداتها" اللامتناهية... ولا يزال النقاش حول تنظيم مستقبل الذكاء الاصطناعي وقوننته وسبل ضبطه مفتوحا.
نجومية "تشات. جي. بي. تي." طوال هذه السنة، حملت معها تثبيتا لنجومية "الجمعية" المنتجة، "أوبن إي. آي." (Open AI)، وكذلك حملت أحد مؤسسيها، ورئيسها التنفيذي سام ألتمان خصوصا، إلى نادي الكبار في "سيليكون فالي"، وهو الذي كان قبل سنة خلت شخصية مجهولة في عالم الأعمال، وكانت "أوبن إي. آي." تحتسب في خانة "الجمعيات" التي لا تبتغي الربح، ليتم تحويلها بعد ذلك الى شركة ذات تركيبة هجينة تبتغي الربح، واجتذبت "مايكروسوفت" لتضخ ملياراتها العشرة مع حصة وازنة نسبتها 49 في المئة، من دون مقعد في مجلس الإدارة، وليتظهر من بعدها حجم الفتح الكبير لهذه "الجمعية" التي شارك في تأسيسها إيلون ماسك (ما غيره)، مما أثار غضب الأخير ولا يزال، وتلك قصة أخرى.
ما الذي حصل في الأسبوع المنصرم وعلام يدل أو يستدل به؟
فجأة، انفجرت وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي الأحد المنصرم بـ"ترند" فصل "النجم" سام ألتمان من موقعه كرئيس تنفيذي لـ"أوبن إي. آي"، من قبل أكثرية أعضاء مجلس إدارة الشركة، لتعود وتنفجر مجددا في اليومين التاليين بملحمة تعيينه في "مايكروسوفت" على رأس مختبر للذكاء الاصطناعي، وما لبث أن أعقب ذلك تهديد غالبية الموظفين الذين يفوق عددهم الـ700 بالاستقالة من الشركة، واللحاق برئيسها إن لم يعد المجلس عن قراره، لينتهي "تريند" ألتمان سريعا بعودته سالما غانما إلى رئاسة الشركة واستقالة ثلاثة من أعضاء مجلس الإدارة الذين أصدروا قرار طرده.
الفصل الدرامي الخاطف الذي أحاط بـ"أوبن إي. آي." صوب كل الأضواء نحو إزاحة سام ألتمان من منصبه وعودته إليه بدلا من تسليط الضوء على الجانب الأهم من هذه القصة وهو نظام الحوكمة للشركة
ذلك كله قد حصل، لكن لم تتوضح حتى الساعة الأسباب الفعلية الكامنة وراء هذا القرار المباغت، والمقلق في الوقت نفسه، كونه نابعا من فقدان الثقة بأحد أبرز قادة تطوير الذكاء الاصطناعي في وادي السيليكون، والعالم الأجمع من دون مبالغة. فأي قرار مماثل من شأنه أن يزعزع الأسس التي تقوم عليها الشركات الناشئة في هذا المجال من حيث إدارتها وخططها وأهدافها، وكيفية تنفيذها لهذه الأهداف في غياب الرقابة التنظيمية. ولهذه حديث آخر. لكن مشهد ما حصل، استحضر قصة طرد ألتمان من رئاسة حاضنة الأعمال "واي كونبينايتر" على يد مؤسسها بول غرهام بحسب صحيفة "واشنطن بوست"، وهو الذي كان بمثابة "المرشد الروحي" لألتمان.
يستنتج من يتابع الفصل الدرامي الخاطف الذي أحاط بـ"أوبن إي. آي." أن وراء الأكمة ما وراءها، فالفورة التي حصلت في أيام معدودات صوبت الانتباه كله على إزاحة ألتمان من منصبه وعودته إليه، بدلا من تسليط الضوء على الجانب الأهم من هذه القصة وهو نظام الحوكمة الذي يرتكز عليه عمل الشركة، والذي دفع عددا من أعضاء مجلس إدارتها الى اتخاذ قرار كهذا. فإذا ما نُظر الى الأمر بموضوعية، فقد لا يكونون مخطئين في قرارهم وإن افتقروا إلى سلامة الأسلوب والتوقيت.
مهزلة "أوبن إي. آي" و"مايكروسوفت"
تثير "رؤية ومهمة" (Vision and Mission) "أوبن إي. آي."، التي أعلنت منذ تأسيسها كمؤسسة "لا تبتغي الربح"، إشكالية في جوهر هيكليتها الحالية التي تضم إلى المؤسسة غير الربحية، شركة تابعة يشمل دورها إلى جانب تطوير منتجات الذكاء الاصطناعي العام (Artificial General Intelligence - AGI)، تحقيق أرباح تمكنها من تمويل أكلافها الباهظة لجهة العمل التقني القائم على الحوسبة المتقدمة، والأدمغة التي وراءها. المفارقة أن مجلس إدارة الشركة موكل بالسهر على نجاح المؤسستين، فهو من جهة حريص على مصلحة المستثمرين في الشركة، في ما يتعلق بنجاحها وتنافسيتها وأرباحها، وفي الوقت نفسه مؤتمن على دعم المهمة الأساسية لتأسيسها المنصوص عليها في عام 2018، لتطوير ذكاء اصطناعي عام آمن ومفيد للبشرية جمعاء.
بات سعي الشركة الحثيث وراء تحقيق الأرباح فاقعا، ما سيزيد من أخطار التطور غير المضبوط للذكاء الاصطناعي
لكن مع النجاح الهائل الذي حققه "تشات جي. بي. تي." ودخول "مايكروسوفت" على الخط، لتسيطر على 49 في المئة من الأسهم فقط خوفا من تعرضها لتدقيق مكافحة الاحتكار، إضافة إلى حصولها على حقوق الملكية الفكرية لـ"أوبن إي. آي." المتعلقة بتطوير منتجات الذكاء الاصطناعي العام، بات سعي الشركة الحثيث وراء تحقيق الأرباح فاقعا، لم يخفه تعبير ألتمان وشركات التكنولوجيا الكبرى في مايو/أيار الماضي، عن مخاوف أخطار التطور غير المضبوط للذكاء الاصطناعي والتهديد الذي يمكن أن يشكله في غياب النظم الرادعة، وقد يرخي بظلاله على الإعفاء الضريبي الذي تتمتع به المؤسسة غير الربحية. من هنا بات انحراف "أوبن إي. آي." واضحا وقد عززته الشراكة القوية مع "مايكروسوفت" التي لا تلتقي حتما مع مهمات المؤسسة الأم ومن بعدها الشركة التابعة في محدودية تحقيق الأرباح، كما أن هناك تساؤلات عما إذا كانت "مايكروسوفت" قد حصلت على حقوق الملكية الفكرية وفقا لتقييم عادل أم لا.
يضع هذا الواقع نظام حوكمة "شركات المنفعة" أو "B-Corps" تحت المساءلة لجهة نجاحها في التوفيق بين ادعائها الخيري وعملها التجاري، وتشتد الحاجة إلى ذلك في قطاع التكنولوجيا ولا سيما المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، والحفاظ على مسؤوليتها تجاه المستثمرين فيها وعملائها وشركائها بشكل عام وضمان مصلحتهم. وتمتد هذه المساءلة إلى المستثمرين أنفسهم، وفي هذه الحالة، إلى "مايكروسوفت" المنضوية أعمالها تحت إطار استراتيجيات "البيئة والمجتمع والحوكمة" (ESG)، ودورها كشركة رائدة ملتزمة أن تكون السباقة في ضمان المصلحة العامة والتأني في تطوير منتجات الذكاء الاصطناعي، الأمر الذي ينتفي تماما في تعاملها مع سام ألتمان والخطى المتسارعة التي تتقدم على أساسها في تطوير هذه المنتجات. فعلامَ تراهن "مايكروسوفت"؟ هل هي علاقة الصداقة التكنولوجية كما يصفها ألتمان؟ أم أن "مايكروسوفت" تضع نصب عينيها مقارعة شركة "غوغل" و"ميتا" و أكس كورب" في سباق الذكاء الاصطناعي المحموم؟ أي الأرباح المتعاظمة؟
يضع هذا الواقع نظام حوكمة "شركات المنفعة" أو "B-Corps" تحت المساءلة لجهة نجاحها في التوفيق بين ادعائها الخيري وعملها التجاري
أظهرت الواقعة الأخيرة أن الكلمة الفصل هي لأصحاب المال القيمين على نمو الشركة ورفدها بالسيولة وتاليا استمرارها، وأن هؤلاء ليسوا في حاجة لأي مقعد في مجلس الإدارة لامتلاك السلطة الفعلية في توجيه أعمال الشركة والقيم المقترنة بها. وقد لا تكون كلمات الرئيس التنفيذي لـ"مايكروسوفت" ساتيا ناديلا مطمئنة للجمهور، بل لمساهمي "مايكروسوفت" في الدرجة الأولى: "سوف نتأكد من إصلاح نظام الحوكمة حتى يكون لدينا المزيد من الضمانات وحتى لا تكون لدينا مفاجآت". وهذا ما عكسه ارتفاع سعر سهم الشركة بعد تدخلها لإعادة ألتمان كرئيس لـ"أوبن إي. آي".
ليس غريبا على الشركات الناشئة عموما أن تكون أنظمة الحوكمة لديها غير تقليدية أو غير ناضجة، لكن تلك المعضلة أشد وقعا في عالم التكنولوجيا، والخاسر الأكبر، وقد يكون الأوحد، هو الذكاء الاصطناعي الآمن.