داخل امبراطورية "حماس" المالية المترامية

لماذا تعجز إسرائيل عن تفكيك الموارد المالية للجماعة؟

Shutterstock
Shutterstock

داخل امبراطورية "حماس" المالية المترامية

يبدو البوسفور خلّاباً عند النظر إليه من أحد أروع المطاعم في إسطنبول. المكان من المقاصد المفضّلة للمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال وصغار المشاهير - ومموّلي "حماس". يصف رجل فرضت عليه أميركا عقوبات لتمويل الجماعة الإسلامية، أعضاء مجلس إدارته المتنوّعين. ويقول إن الاتهامات الأميركية "سخيفة". لكن يأتي اعتراف في نهاية المطاف. "إذا كنت تسأل عما يفعله موظفونا بأموالهم، فما أدراني؟".

ثمة ثلاثة مصادر لسلطة "حماس": قوتها المادية داخل غزة، اتساع انتشار أفكارها، ودخلها. بعد هجمات "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، قتلت إسرائيل أكثر من 12 ألف فلسطيني في غزة في سعيها إلى تدمير الحركة. لكن هدف إسرائيل المعلن حول تدمير "حماس" إلى الأبد يتطلّب تفكيك قاعدتها المالية أيضاً. قليل جداً من هذه القاعدة موجود في غزة، بل إنها موجودة في الخارج في البلدان الصديقة. ويُعتقد أن امبراطورية "حماس" المالية، المجهّزة بغاسلي الأموال وشركات التعدين وشركات كثيرة غيرها، تدرّ ما يزيد على مليار دولار سنوياً. وربما تكون بعيدة المنال عن إسرائيل وحلفائها، بعدما بُذلت جهود كبيرة في إنشائها لتجنب العقوبات الغربية.

تدفع "حماس" من دخلها مقابل كل شيء، من رواتب المعلّمين إلى القذائف. ويأتي نحو 360 مليون دولار سنوياً من الضرائب على البضائع المستوردة التي تجلب إلى غزة من الضفة الغربية أو مصر. وهذا مصدر للمال تستطيع إسرائيل خنقه بسهولة. فبعد انسحابها من القطاع في سنة 2005، فرضت قيوداً صارمة على حركة البضائع والأشخاص عبر الحدود. والآن تمنع دخول حتى معظم الاحتياجات الأساسية، مثل الغذاء والوقود.

لكن يتدفّق دخل أكبر بكثير من الخارج. ويعتقد المسؤولون الإسرائيليون أن هذا الدخل يبلغ نحو 750 مليون دولار سنوياً، مما يجعله المصدر الرئيس لتمويل مخزون "حماس" القائم حالياً من الأسلحة والوقود. تأتي بعض الأموال من حكومات صديقة، وأكبرها إيران. وتعتقد أميركا أن آيات الله يقدّمون 100 مليون دولار سنوياً للجماعات الإسلامية الفلسطينية، كمساعدات عسكرية بشكل رئيسي. ويضطلع مموّلو "حماس" بنقل هذه الأموال من دون الوقوع في شباك العقوبات الأميركية. ففي الشهر الماضي وحده، فرض المسؤولون الأميركيون القيود ثلاث مرّات على أفراد وشركات لتمويل "حماس".

هدف إسرائيل المعلن تدمير "حماس" إلى الأبد يتطلّب تفكيك قاعدتها المالية أيضاً، وهي موجودة في الخارج في بلدان صديقة

يتطلّب التهرّب من العقوبات الأميركية بعض البراعة. فملايين الدولارات تتدفّق إلى "حماس" من طريق أسواق العملات المشفّرة. ويقول فيروز سيغزين، وهو خبير اقتصادي في جامعة بيلكنت في تركيا: "ستُدهش من حجم نشاط السوق الذي يعود إلى حماس". وتقول وزارة الخزانة الأميركية إن "حماس" هرّبت أكثر من 20 مليون دولار عبر "ريدين"، وهي شركة لصرف العملات توجد بين المتاجر السياحية الكثيرة في عمق حي الفاتح القديم في إسطنبول. وتضيف الوزارة أيضاً أن "بايننس"، أكبر بورصة للعملات المشفّرة في العالم من حيث حجم التداول، سمحت لمستخدميها بتنفيذ معاملات مع "حماس".

Shutterstock

لكن المسؤولين الإسرائيليين يقولون إن القسم الأكبر من أموال "حماس" - ما لا يقل عن 500 مليون دولار سنوياً - يأتي من استثماراتها، وبعضها شركات مسجّلة في بلدان عبر الشرق الأوسط. يدير هذه الشركات مكتب الاستثمار التابع لـ"حماس" ويوظف أعضاءه فيها. ويقول المسؤولون الأميركيون إن الشركات تتبرّع للجمعيات الخيرية التي تحوّل بدورها الأموال إلى "حماس". ويكشف المسؤولون الأتراك أن الأرباح تؤخذ مباشرة في بعض الأحيان.

من الصعب على الجهات التنظيمية والرقابية الغربية فكّ تشابك تدفّقات هذه الإيرادات. وقد أنشأت إحدى هذه الشركات "عفراء مول"، أول مركز تسوّق في السودان، في حين تمتلك شركة أخرى مناجم بالقرب من العاصمة الخرطوم. وبنت شركة ثالثة ناطحات سحاب في الشارقة، في دولة الإمارات العربية المتحدة. وتتباهى العديد من هذه الشركات بصفقاتها التجارية، لكنها تنفي أي ارتباط بـ"حماس".

يساعد النظام المصرفي التركي "حماس" في تفادي العقوبات الأميركية بإجراء معاملات معقّدة في جميع أنحاء العالم

هل يمكن وقف الإيرادات التي لا تزال تتدفّق على "حماس"؟ يتوقّف ذلك على البلدان التي تمرّ عبرها. فمصرفيو "حماس" يقيمون في الخارج، منذ سنة 1989، عندما اعتقلت إسرائيل عدداً من كبار مسؤولي الحركة في غزة والضفة الغربية. لكن بمرور الوقت، اضطرتهم التحوّلات الجيوسياسية إلى مواصلة التنقّل. فتخلّت "حماس" عن مركزها المالي الأول في العاصمة الأردنية عمان، تحت ضغط أميركي.

اليوم، مع أن سياسيي "حماس" يفضّلون العاصمة القطرية الدوحة، وأن شركاتها تعمل من الجزائر والسودان إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. فإن مموّليها يقيمون في إسطنبول. هنا يقيم زاهر جبارين، الذي تتهمه إسرائيل بإدارة الشؤون المالية لـ"حماس" (وهو ما ينفيه)، وكذلك العديد من الأفراد الآخرين الخاضعين للعقوبات الأميركية لتمويلهم المنظمة. ويقدّم لهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ملجأ، حرصاً على اكتساب نفوذ إقليمي بدعم القضية الفلسطينية. وتقول إسرائيل إن الحكومة التركية توزّع جوازات السفر (وهو ما تنفيه) وتسمح لـ"حماس" بإقامة مكتب لها في البلاد.

في غضون ذلك، يساعد النظام المصرفي التركي "حماس" في تفادي العقوبات الأميركية بإجراء معاملات معقّدة في جميع أنحاء العالم. كما أن سوق العملات المشفّرة المزدهرة والخاضعة لقليل من التنظيم تسهّل الأمور. وتتهم إسرائيل وأميركا العديد من أكبر البنوك التركية، بما في ذلك البنك الكويتي التركي، بإيداع أموال "حماس" مع علمها بها. ويهمس بعض الأشخاص بأن أردوغان يقرّ ذلك بسرية. وفي سنة 2021، وضعت فرقة العمل  الخاصة بالإجراءات المالية، وهي هيئة رقابية تابعة لمجموعة الدول السبع، تركيا على "القائمة الرمادية" للدول التي لا تفعل إلا القليل لتجميد أصول الإرهابيين.

إن احتمال تنامي ثراء "حماس" على الرغم من الحرب سيكون فشلاً مريراً لإسرائيل. ومع الحفاظ على سلامة الثروة والجذور المالية، ربما تعاود "حماس" - أو أي منظمة مماثلة - الظهور والازدهار بعد الدمار

لا يستفيد أحد، أكثر من رجال أعمال "حماس". ويقول أحد الموظفين الماليين في الحركة إن موافقة الحكومة التركية الضمنية "تفتح الأبواب وتسهّل الأمور في مجال الأعمال". وقد فازت "ترند جيو"، وهي شركة مدرجة في بورصة إسطنبول فرضت عليها أميركا عقوبات لتحويلها أموالاً إلى "حماس"، بعقد رسمي لبناء جامعة إسطنبول للتجارة. وتستطيع شركات البناء، التي تبرز كثيراً في محفظة "حماس"، أن تستوعب بهدوء مبالغ ضخمة من النقود وتحصل على قروض كبيرة في الغالب. وكل ذلك يمكّن المسؤولين الأتراك من التذرّع بأنهم لا يملؤون جيوب "حماس" بشكل مباشر.

AP
طفل ينقل الخبز وسط دمار غزة المهول

يبدو حتى الآن أن "حماس" محصّنة مالياً. فلم تتمكّن إسرائيل من إلحاق ضرر كبير بدخلها أو مدّخراتها؛ ولم تبدِ البنوك التركية سلوكاً متعاوناً. وكثير من العقوبات التي تفرضها أميركا تكون قليلة الفعّالية إذا تمكّن المستهدفون من الاحتفاظ بالنقود خارج نظامها المصرفي. وتبرع "حماس" في إخفاء شركاتها. ويقول مسؤول سابق في الخزانة الأميركية قانطاً، "كلما اعتقدت أنك حصلت على صيد ثمين، غيّر اسمه".

بل إن ثمة أخطارًا من أن تتحسّن الموارد المالية لـ"حماس". فمع تصعيد إسرائيل هجماتها على غزة، ربما تسهّل البلدان ذات السكان المؤيّدين للفلسطينيين الأمور على مصرفيي "حماس". وقد سرت شائعات منذ أشهر بأن بعض الموظفين الحكوميين في وزارة الاقتصاد التركية ينسقون مع المكتب المالي لـ"حماس".

إن احتمال تنامي ثراء "حماس" على الرغم من الحرب سيكون فشلاً مريراً لإسرائيل. ومع الحفاظ على سلامة الثروة والجذور المالية، ربما تعاود "حماس" - أو أي منظمة مماثلة - الظهور والازدهار بعد الدمار. ومع أن سكان غزة انغمسوا في المأساة، فإن أموال "حماس" تحظى بمخبأ آمن في مكان آخر - ويستطيع ممولّوها تناول الكركند وهم يتأمّلون البوسفور. 

font change

مقالات ذات صلة