حرية التعبير وصناعة الرأي العام

حرية التعبير وصناعة الرأي العام

الانطباع العام الذي يتكوّن لدى المشاهد إثر متابعة مختلف "المناقشات" التي تقدّمها القنوات التلفزيونية الفرنسية (وربما الأوروبية بصفة عامة)، أثناء تعليقاتها على تطوّر الحرب الدائرة في غزة، هو إجماع المساهمين فيها على رأي واحد، واتفاقهم التام على الفصل بين جهة الخير وجانب الشر، على من هم على حق ومن هم ليسوا كذلك. بل إن مقدمي تلك البرامج يكادون يرددون "الأسئلة" ذاتها. وكلنا يذكر السؤال الذي طالما تردد على آذاننا طيلة شهر بكامله، والذي يستهل المضيف برنامجه بأن يوجهه إلى ضيفه فيسأله عما إذا كان يُدين عمليات السابع من أكتوبر، وكيف كان إحساسه أمام ما جرى؟ معظم الضيوف كانوا يشعرون بنوع من العبث، ويجاهدون أنفسهم كي يخفوا رغبتهم في الضحك، إن لم يكن إحساسا بالأسى على ما آل إليه "ذكاء" مجتمع طالما اشتهر برهافة ذوقه الفني والأدبي.

كل هذا يولّد لدى متتبّع هذه "الحوارات" إحساسا بأن من يتبادلونها، كأنهم تلقوا التعليمات نفسها، وتخرجوا من المدرسة عينها. لا خلاف بين آرائهم ولا تردّد في مواقفهم. فهم غالبا ما يضعون المتلقي أمام خطاب واحد. صحيح أنه خطاب يتنامى، لكنه ينمو من غير أن يعيد النظر في ذاته فيتجاوزها، ومن غير أن يتخطّى حدودا يبدو أنها رسمت من قبل. كل واحد يغذّي الخطاب بما عنده، ولا أحد يخرج عن "جادة الطريق". لا شيء إلا صوت واحد، ورأي موحّد، و"أسئلة" مكرورة.

يتعذر على متتبّع ما يروج في هذه القنوات إذن أن يصدّق أنه بالفعل أمام قنوات تنتسب إلى مجتمع ديموقراطي، يعيش على حرية التعبير


لا يعنى ذلك أن هناك من يملي على كل مشارك الرأي الذي ينبغي أن يعبّر عنه. إذ غالبا ما لا يكون المساهمون في حاجة إلى ذلك. فهم يُنتقون من خيرة الصحافيين، وكبار المحللين، بل ومن الأساتذة الجامعيين. ليس هناك رقيب في إمكانه أن يضبط أقوالهم، ويوجه آراءهم. ما يحصل بالفعل، هو أن كلا منهم ينصّب نفسه رقيبا على نفسه. الدافع إلى هذه الرقابة الذاتية هو أن كل مساهم من المساهمين عارف بما ينبغي أن يقال، وما لا ينبغي. إنه يدخل الأستوديو وفي ذهنه خطوط حمر رسمتها الدوكسا، أو ما يعبر عنه قدماؤنا ببادئ الرأي الذي تغذى عليه طيلة حياته، وتشربه في البيت الذي تربى فيه، والتعليم الذي تلقاه، والصحف التي يتابع.

يتعذر على متتبّع ما يروج في هذه القنوات إذن أن يصدّق أنه بالفعل أمام قنوات تنتسب إلى مجتمع ديموقراطي، يعيش على حرية التعبير. ذلك أن العلامة الأساس الدالة على تلك الحرية هو اختلاف الآراء فيما بينها، وتطاحنها في بعض الأحيان. ولعل هذا بالضبط هو ما يميز المجتمع الديموقراطي عن غيره من المجتمعات التي تسودها الوثوقية وأحادية الرأي، حيث يعمّ الوفاق والإجماع.

لا يتخذ هذا الإجماع شكلا واحدا بعينه، وهو لا يتجسد دوما في خطاب، فقد يتخذ أشكالا أخرى كإغفال الحديث عن أحداث بعينها، والتغاضي عما وقع لطرف من الأطراف، وتناسي بعض الوقائع. يكفي دليلا على ذلك التعليقات التي واكبت اليوم الأول من الهدنة، إذ رأينا حديثا مسهبا مفصلا عن المحتجزين الإسرائيليين، وذكر أسمائهم وأعمارهم واحدا واحدا، هذا مع إغفال تام للحديث عن الأسرى الفلسطينيين، وعن الكيفية التي غادروا بها المعتقلات، وكم قضوا فيها؟ وكيف استقبلوا؟ هذا فضلا عن الإشارة المقتضبة إلى العمال التايلانديين الذين عوملوا ككتلة وليس كأفراد، فأشير إليهم من غير ذكر أسماء ولا حتى إظهار وجوه.

على هذا النحو، يبدو أن الحديث عن حرية التعبير كحق من الحقوق التي يضمنها المجتمع الديموقراطي ينطوي على كثير من المبالغة، حتى لا نقول المغالطة


يُرجع البعض غياب الاختلاف بين المتحاورين في هذه القنوات إلى كونهم يخشون ضياع مناصبهم، ومكانتهم التي يدينون للمنابر الإعلامية بها. غير أن إرجاع الأمور إلى المصلحة المادية، وتفسير الأيديولوجية بنظرية المصالح، إن كان يصدق على المحررين العاملين بتلك القنوات، فهو لا يصدق على غيرهم. ذلك أن هذه القنوات تضم في استوديوهاتها مختلف النخب الفكرية والسياسية. وغالبا ما يكون ضيوف البرنامج من غير المنتسبين للحقل الإعلامي. لذا، فحتى إن سلمنا بأن الظاهرة ترتبط بالإعلام، فهي لا ترتبط به أساسا كقوة مالية، وإنما كسلطة تصنع الرأي العام في تلك المجتمعات. فلا عجب أن يغيب الخلاف بين المتحاورين، لأن هذا الكائن المفتعل الذي هو "الرأي العام" لا يعمل إلا على إخفاء منظومة القوى أو التوترات التي تسود المجتمع و"توزع" الآراء فيه.

على هذا النحو، يبدو أن الحديث عن حرية التعبير كحق من الحقوق التي يضمنها المجتمع الديموقراطي ينطوي على كثير من المبالغة، حتى لا نقول المغالطة، ما دامت الآراء مقيدة بسلطة الإعلام التي لا تكتفي بتلوين الواقع، وإنما تذهب حتى إلى صناعته. وقد سبق لعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو أن بيّن أن مهمة التوسط الإعلامي، في جميع أشكاله، هي أن يخلق الوهم بأن هناك "رأيا عاما" كي يبقي على السمة العامة التي تميز كل مجتمع ديمقراطي، ليجعلنا نعتقد بأن الآراء في ذلك المجتمع مازالت تختلف وتتضارب وتتواجه وتتولّد عن جدال يتم داخل جمعيات وطنية انتخبت بكل نزاهة لتفصح عن حرية الرأي وتؤكد الحق في الاختلاف، هذا، في حين أنها تسير "وحدها" نحو التجمّع لخلق وهم "رأي عام" يسمح لسياسيي الحياة المعاصرة بأن يستبدلوا العبارة الدينية "الله معنا" بعبارة علمانية تقول "إن الرأي العام بجانبنا".

font change