-
الأغنية الشعبية في مصر فن قديم يعبِّر عن مشكلات الطبقة الوسطى والفقيرة ويتميز بأنه ليس مركزيا، فهناك أغنية شعبية بدوية وصعيدية إلى آخره... هل أغاني المهرجانات و"الراب" هي البديل الحالي من الأغنية الشعبية؟
حتى الآن لم يتعامل أحد مع مشهد "الراب" و"المهرجانات" بشكل نقدي يشرح ويفكك لنا الأغاني والألحان في هذين اللونين بطريقة موضوعية ودون انحيازات، وترك الجميع الظاهرة تتفشى على أمل أن تنظم نفسها، في وقتٍ وجّه فيه عدد من النقاد سهامهم بلا هوادة.
تتباين الآراء في شأن أغاني "المهرجانات"، ما بين معارضٍ لفرض وصاية أو حجر على اختيارات الناس وأذاوقهم، وهو فريق يرى في معظمه أن هذه الأغاني ستنتصر لأنها تتحدَّث عن مشكلات الناس، على خلفية نغمة موسيقية متكررة. بل إن هناك من يرى أن أغاني "المهرجانات" الشعبية هي ترجمة للواقع الذي نعيش فيه سواء كنا متفقين مع هذه الأغاني أم لا، فهي تُعبِّر عن مناطق العشوائيات بما تعانيه من زحام وسوء الأحوال الاقتصادية والمعاناة من التهميش. كل ذلك تُرجِم في صورة ضجيج في هذه الأغاني. وفريق آخر يحذر مما يراه لغة متردية وإسفافا في تلك الأغاني، له أخطاره على المجتمع وثقافته العامة، فضلا عن أنه يجعل العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة في عالم الغناء.
هناك فريقٌ ثالث، يطالب باحتضان مطربي "المهرجانات" وتعليم من لديه موهبة منهم ووضع ضوابط على كلمات أغانيهم، وفي الوقت نفسه حثّ المنتجين على تشجيع المواهب الشابة.
علينا أن نعترف بأن مجتمعاتنا متنوعة الأذواق والأجيال، فهناك أذواق التمرد والرفض عند شباب كثيرين، وهناك أذواق محافظة لا ترى إلا نماذج الفن والزمن الجميل في القرن العشرين، وهناك غناء المهمشين وأصحاب المزاج، وهي كلها ألوان علينا تقبلها، والمطلوب أن تختار الجهات المعنية إلى أي لون تنحاز دون أن يعني ذلك إلغاء الآخرين.
إشكالية "ويجز"
-
خصصت فصلا كاملا في الكتاب عن أغنيات "ويجز" الذي تسببت أغنياته بصدمة في الشارع المصري، إلا أن هناك قطاعا عريضا من الشباب الذين يفهمون "رموز" أغانيه وهذا أمر غريب...
ربما كان "ويجز" رمزا أو رأس الحربة لموجة جديدة من الموسيقى تتعالى على قواعد صناعة الموسيقى الأكاديمية وأصولها، وعلى الرغم من أن تلك الموجة نالت استهجان من أطلق عليهم أعداء النجاح ومُدعي الفضيلة وقادة شرطة الأخلاق الفنية، فإنها اكتسحت المشهد الغنائي وحصدت جمهورا غفيرا. بدا لكثيرين أن "ويجز" يمثل تحديا لمنظومة سيطرة الشلل الفنية والثقافية السائدة، وبات ثمرة لديموقراطية التكنولوجيا التي تسمح لنماذج من الهامش بأن تحتل المتن طالما أنها تمتلك الموهبة والقدرة على التقاط روح العصر.تناول "ويجز" منذ ظهوره الكثير من الموضوعات، التي من الممكن اعتبار أنها الخيوط التي يسير على دربها "الراب" المصري.
تحفل أغاني "ويجز" التي يؤلفها بنفسه في الغالب، بالحديث عن نفسه ومعاناته الشخصية، سواء كانت هذه المعاناة بسبب تردي وضعه الاجتماعي قبل الشهرة، أو بسبب الخوف من عدم تقبل المجتمع له ولطموحاته، وهي سمة غالبة على أغاني "الراب" المصري عامة، فالمعاناة هنا تنتقل من كونها شخصية تخص "ويجز" وزملاءه فقط لتعبِّر عن معاناة هذا الجيل بأكمله، والتحديات التي أجبروا على مجابهتها بصدور عارية.
صندوق العجائب
-
في كتابك الأخير "صندوق العجائب: من الدراما إلى المقالب والفوازير" الذي رصدت فيه التحول الاجتماعي والثقافي في مصر من خلال التلفزيون، تتوقف عند تجربة أسامة أنور عكاشة، ماذا استنتجت في خصوص مشروعه؟
تناولت دراما أسامة أنور عكاشة الكثير من الهموم والقضايا، مثل قضية الهوية في "أرابيسك" و"زيزينيا"، وقضية التحولات الاجتماعية الكبرى ومرحلة ما بعد ثورة يوليو وبعد حرب 1973 كما في "ليالي الحلمية"، وسيادة المادة على القيمة مثلما رأينا في "الراية البيضا" وفكرة المستبد العادل كما في "عصفور النار"، وفكرة المثاليين في زمن غير مثالي، مثل "رحلة السيد أبو العلا البشري" و"ضمير أبلة حكمت"، والفساد كما في "أنا وأنت وبابا في المشمش"، كما تطرق الى الهم العربي في "امرأة من زمن الحُب".
انشغل أسامة طوال مشواره الدرامي بالشخصية المصرية وتحولاتها مع التطورات والتغيرات التاريخية، وعلاقتها بالآخر، خاصة أن عددا كبيرا من الأجانب كان يعيش في مصر مستقرا كالمصريين حتى بدايات ستينات القرن العشرين. أما المحور الرئيسي الثاني الذي يقوم عليه مشروع أسامة أنور عكاشة الفكري، فهو الرصد الدرامي للتطور الاجتماعي في مصر، الذي بدأه على مستوى الأسرة في مسلسل "الشهد والدموع" وغيره، ثم على مستوى الحي في "ليالي الحلمية" و"زيزينيا" وغيرهما. وبعد رحلة طويلة بين القاهرة والإسكندرية، اختار في "المصراوية" رصد مستويي القرية والمدينة الإقليمية، أو المركز الواقع بين الريف والحضر، محاولا كشف أسرار العلاقة الفريدة بينهما، وعائدا إلى جدلية التأثير المتبادل بين أبناء الريف والمدينة، التي كان قد بدأها في "أبواب المدينة" من خلال القرويين النازحين إليها، لكنه في "المصراوية" يقوم برحلة معاكسة.
تتجلى عبقرية أسامة أنور عكاشة الحقيقية في حفاظه على مشروعه الفكري/ الدرامي، وإلحاحه على عناصره وأفكاره أكثر من مرة، من دون أن يصيب المشاهد بالملل، ومن دون حتى أن يلاحظ بعض المشاهدين هذا الإلحاح، مع تأثرهم الكامل به.
مشروع أدبي
-
تتنوع إصداراتك في مجال الأدب بين القصة والنصوص والرواية، هل لديك مشروع أدبي تسعى إلى تحقيقه؟
بكل تأكيد. إنني فخورٌ بما كتبت، ومشتاقٌ الى ما سأكتبه، وغير نادم على انشغالي بالمعرفة عن أهل الوقت الضائع. هل كنت سأُنجِزُ مؤلفاتي، لو سرقتني المقاهي وغيتوهات المثقفين الغارقين في الانغماس الذاتي والإفراط في التعالي والأدلجة؟
لقد طغى البحث عن التاريخ المفقود على مشروع الكتابة عندي، سواء الكتابة البحثية أو الإبداعية. أردتُ أن تكون كتاباتي السياسية وبحوثي التاريخية عينا واعية في انتقائها وانتقادها، واخترتُ أن تُقدِّم كتاباتي الإبداعية لغة تعتمد المتعة وتبتكر الجديد ولا تستسلم للقبح السائد ولا للتفاهة الرائجة. الأعمال الأدبية الذهنية قد تثير سخطك، وقد تقودك إلى الجنون أحيانا، لكنها حتما ستحرضك على التفكير والمقاومة.
لم يطبعْ التزامي الموضوعية في تقصي موضوعاتي الأسلوبَ بطابع الجفاف، بل كنتُ حريصا على أن يكون الأسلوبُ ممتعا، شائقا يطرِّزُهُ السردُ الجميل، والطرائفُ المدهشة المسليَّة، مما يضيف إلى قامة أي كتابٍ ارتفاعا آخرَ من النجاح والـتأثير. الأمر متعلقٌ بالمخيلة، فأنت أبكم، لا يسمع أحدٌ صوتك إلا حين تُبحِرُ بك الأفكارُ القرمزية في جزيرة الخيال.
هكذا تكون الكتابة معابر لتنشيط الذاكرة وحمايتها من صدأ النسيان. ابتعدت عن الحياة الاجتماعية وصحبة الناس ومخالطة الأصدقاء والخلان، مقدما عليها صحبة الكتب والمكتبات. تصوفٌ في طبيعة العلاقة بالعلم والمعرفة. لذا أصبحتُ غزير الإنتاج والتأليف وتركتُ خلفي مكتبة متعددة الاختصاصات. وفي النهاية، لستُ مدينا لأحد، إلا للقارئ الذي يبحث ويفكر ويقارن.