مارادونا 1986... الفتى الذي علّمنا السحر

الساحر الأرجنتينيّ مارادونا، كان السبب الدامغ وراء عشقي البكر لمنتخب الأرجنتين، واللعبة لم تقتصر على مشاهدة مباريات الأرجنتين إذ في موازاة ذلك برزت مجلّاتٌ تروّج لها دكاكين طارئةٌ في البلدة وهي مختصّةٌ بصور اللاعبين، عليكَ أن تشقى بأيّما عمل حتّى تؤمّن شراء علبة صور كيفما اتّفق، إذ المسألة يتكفّلها حظّكَ في الظفر بصور أشهر اللاعبين، أو الاصطدام بالمغمورين منهم. حظ العثور على صورة مارادونا أو سقراط، أشبه بالعثور على كنز.

لا مقدرة شرائية تمكنّنا من الحصول على المجلّات التي تقتضي مَلءَ فراغاتها بتلك الصور، وبدل ذلك اخترعنا لعبتنا الأثيرة، وقامرنا بتلك الصور في أكثر من رهان كلعبة ضربات الجزاء، أو "الرجيلة" (أن تداعب الكرة بقدمك ولا تسقط منك، فمن يحتفظ بها أطول وهو يلاعبها يربح الذي تهوي من قدمه سريعا).

وبتلك السنّ اليافعة احتشدنا في فرق أسّسناها ووضعنا لها أسماء غريبة، ما من درب إلا وهو شهيرٌ بفرقة كرة قدم، بحسب تدرّج الأعمار، وباتت المباريات بين الفرق داخل البلدة أشبه بحروب صغيرة شرسة، ألهبت الضغائن والفتن، وفصدت الكثير من الدم حتّى أنّ كابوس الثأر لازم فصول السنة الأربعة.

على مقاس مارادونا

أغلبنا حلمَ أن يغدو لاعب كرة قدم، نجما على مقاس مارادونا، صنم الجيل الكروي بلا منازع، ومع التقدّم في العمر، بات الحلم يتقوّض لصالح إكراهات طارئة، وانشغالات جارفة، فيما ظلّت كرة القدم سلطان المتع فرجة ولعبا، واحتدم التنابز والاحتراب بيننا كمتعاطفين مع الفرق الوطنية والعالميّة، واستأثر فريقا الرجاء البيضاوي والوداد البيضاوي بالإعجاب كلّه وطنيّا، وريال مدريد وبرشلونة، أسي ميلانو... عالميّا. هذان الاحتراب والتنابز غير محمودي العواقب في مجمل الأحوال، إذ يتفاقمان ويؤولان إلى عراك مستفحل لا يخبو أوار خصوماته.

تداعت شواهق حبّي للكرة كيافع حينما اكتشفت متعةَ القراءة وعلى نحو أجمل وأخطر لعبة أعظم هي الكتابة، حتّى فرجة متابعة المباريات خفّت وتقوضّت في ما بعد باطّراد وبخاصّة في الفترة الآنية، مع تغوّل شيطان المال الذي زجّ بجماهيريّة اللعبة في سوق المضاربين وسماسرة القرن الذين حوّلوها إلى أرقام تجارية خياليّة، محتكرين تدبيرها المالي والإشهاري بصفاقة وانحطاط، زد على ذلك كيف تحوّلت إلى أداة رخيصة تنبغ الأنظمة السياسية في استعمالها بلؤم كيما تصرف نظر الحشود عن أمهات القضايا الملحاحة.

ومع ذلك تظلّ لعبة كرة القدم أبدع اختراع على الإطلاق في تاريخ الفرجة الرياضيّة، تحتفظ لها الحوّاس بأثر متعة لا يمحى، غائرة في الوجدان، ولا تنفكّ شعريّتها تفتن الذائقة البصريّة، بل تغدو موسيقى توائم بين الجسدي والروحي والذهني على نحو هارمونيّ.

فضائل مارادونا العشر

1- بفضل الساحر مارادونا، حدث أن عرفت بلادا فاتنة اسمها الأرجنتين، وغدت بلادا مجازية أنحاز إليها من فرط الإعجاب بطفلها المرعب، قبل أن أعرفها لاحقا بغيفارا وبورخيس وخوليو كورتاثار إلخ.

2- بفضل الساحر مارادونا، تحوّلت حقيقة ميكسيكو 1986 إلى خرافة. لنقل أمتع فيلم سينمائيّ شهده تاريخ اللعبة عن بكرة خيالها.

3- بفضل الساحر مارادونا، عشقنا مدينة مغمورة لم تخطر في الحسبان: نابولي، وإن لم نزرها فهي الأخرى تسلّلت من حيث لم نحتسب إلى متحف الوجدان، وأمّا الحقيقة الدامغة: المعجزة خيطٌ موصول بقدمه اليسرى، وإلا كيف لفتى أشعث من بوينس آيريس أن يصنع مجدا صاعقا على هذا النحو الخارق في جنوب إيطاليا، إذ ما ترقبته نابولي حدّ اليأس لسنوات طوال عجاف، حقّقه الغزال الذهبيّ في هنيهة مارقة.

4- بفضل الساحر مارادونا، غدت كرة القدم فنّا يضاهي الشعر والموسيقى، أكثر منها لعبة جماهيريّة، قائمة على احتفالية الفرجة.

5- بفضل الساحر مارادونا، اكتشفت الواقعيّة السحرية قبل أن أعرفها مع غابريال غارثيا ماركيز و...

6- بفضل الساحر مارادونا، تعلّمنا أنّ الشعر لا يتحقّق بالقصيدة وحدها، بل يمكن أن يتحقّق بأشكال أخرى، بما فيها كرة القدم.

7- بفضل الساحر مارادونا، أضحت الكرة رغيف النهارات –الأشهى- في ضواحي العالم، وقمر آماسيها الأبهى.

8- بفضل الساحر مارادونا، صدّقنا أن كوكب الأرض نفسه، محض كرة في ملعب آلهة الأولمب.

9- بفضل الساحر مارادونا، بات أزرق الأرجنتين هو لون عشب الملاعب، وشمس عَلَمها هي ما يتدحرج في الميادين، هذه التي تلاحقها الأقدام كيما تظفر بقبس من نار الخلود.

10- بفضل الساحر مارادونا، أصبح رقم عشرة، أقدس ممّا كان عليه، بل أمسى قرينا لاسمه، وملازما على نحو أبديّ.