لهذا يمكن النظر إلى الكثير من المواقف التي سيصادفها وليد لاحقا في "الحمى" على أنها كوابيس لا تنتهي. كما يمكن النظر إلى الفيلم نفسه، في أحد مستويات التأويل باعتباره كابوسا ممتدا للكاتب الفلسطيني الذي يريد انتزاع الحق في الحياة والإبداع مثل كل كتّاب العالم، والذي من دون هذا الحق، قد لا يجد لوجوده معنى، ويفقد الرغبة في الحياة.
"حمى" الوجود
يعيش وليد حياة مستقرة وموسرة، عائلته الكريمة لا تكابد ماديا، وحتى أسرته الصغيرة لديها ما يكفي احتياجاتها، والفيلم ينزه أعيننا بين آن وآخر، في شوارع حيفا الجميلة، حيث يقع بيته. الإضاءة تعبّر عن دفء ما، وكذلك تفاصيل الديكور الداخلي في شقته، وفي حفلة عيد ميلاد الأم، التي تبدو مفارقة ساخرة من الكابوس الذي راوده في البداية، لكن وراء هذا الدفء نوع من الذبول والاصفرار سيتكشف شيئا فشيئا. أولا نشعر به، لكننا لا نستطيع أن نضع أيدينا عليه، يتجلّى ربما في اختياره اسمَي ابنيه: نور الابنة وشمس الابن. كأنها محاولة مواربة لاستدعاء الضوء إلى هذه الحياة، والكتابة في طبيعة الحال محاولة أخرى في السبيل نفسه.
نقترب للمرة الأولى من أزمة وليد، وهي ليست أزمته منفردا بالطبع، حين يمرض ابنه في المدرسة ويذهب معه لزيارة الطبيبة التي تحاصره بأسئلة إدارية باردة من قبيل: ما هي جنسيتك؟ ما هي ديانتك؟ وليد كغالبية الكتّاب يفضل أن يقول فقط إنه فلسطيني، لكن الكلمة لا تعجب الطبيبة، وترد عليه بتهديد ضمني، إن لم يُخبرها بديانته – الديانة هنا وفقا لوليد هي طريقة للتصنيف والاستبعاد – فلن تتمكن من تسجيل الاستمارة، وبالتالي لن يحصل شمس على علاج.
شمس نفسه، يلعب دوره الطفل سمير إلياس، الذي يمرض بانتظام كل يوم ثلاثاء، يمثل مرضه استعارة أخرى عن هذه الأزمة، أو الحُمّى حسب تعبير الفيلم نفسه، فمعاناته تتزامن مع الدرس الأسبوعي للجغرافيا. والمسألة ليست أن شمس يكره الجغرافيا، كما يحق لأي طفل كراهية أي مادة دراسية، لكن ببساطة أن ما عليه حفظه وترديده في هذه الحصة يتناقض مع ما يعلمه إياه والده في البيت، القدس عاصمة فلسطين، وليس إسرائيل. المعلمة تنصح الصغير بأن يقول العكس، كي لا يتسبب لنفسه وللآخرين في متاعب. ولا تستطيع أن تفهم أن درس الجغرافيا بالنسبة إلى التلميذ الصغير كابوس يهدد هويته الإنسانية المستقبلية. هذا نوع من المشاكل، لا يستطيع وليد أن يحله، لذا يعبّر جسد الطفل عن عجزه عن الاستيعاب والتلاؤم، واضطراره إلى الخنوع لمنطق القوة الذي تفرضه عليه المعلمة، بهذه الحمّى الأقرب لأن تكون حمى وجودية. لكن الطبيبة لا ترى في مواجع الطفل الفلسطيني إلا مقدار تشابه الأعراض مع مرض شائع في هذه المنطقة من العالم، وهي التي تعنون بها مها الحاج فيلمها: حمّى البحر المتوسط.
جار جديد
بالضبط حين نعتقد أننا فهمنا مأزق وليد، يظهر جلال، يؤدّي دوره أشرف فرج، وهو جار صاخب وثقيل الظل، ينتقل حديثا للسكنى قرب وليد، ويقتحم عنوة روتين انتظاره الرتيب للكتابة، يسأله في التعارف الأول: شو بتشتغل؟ فيجيبه وليد: بحاول أكتب روايات. ليعاجله مدهوشا: هي الكتابة بتطعمي خبز؟ كأنه بسؤاله يستفسر عن جدوى العملية، في ما هو أبعد من المال والطعام. كأن جلال يريد أن يقول: وهل تكفي الكتابة هوية؟ مع زوجته يصف وليد المتذمر على الدوام، جلال بالجار "الزنخ"، ويحاول باستمرار أن يتهرب من حواراته التي لا معنى لها في نظره.
غير أن جلال، في حال تجاوز عتبة الاسم، لا يُمكن اختزاله ولا اختصاره في موقف واحد. صحيح أنه أبدى انزعاجا من موقف وليد النضالي، وهو يصرّ على تسمية الأماكن للسائلين في الشارع بأسمائها الفلسطينية القديمة، وليس الإسرائيلية الحديثة والمتداولة، وتَحمّل أن يستمع من وليد الى محاضرة خطابية في الانتماء: "تعرف أنه المشكلة في الفلسطينيين الجهلة اللي زيك". إلا أنه من جانب آخر، كان يحب حصة الشعر العربي في المدرسة، من بين جميع الحصص ولا يزال يحفظ عن ظهر قلب بعض أبياته. يستمع جلال إلى أغنيات جورج وسوف بصوت مرتفع يُغيظ وليد عدا عن نباح كلابه المستمر الذي يتسلط على أوقات كتابة وليد، مع ذلك هو موجود دائما عند الحاجة، ولا يتقاعس عن استغلال مهاراته كحرفي في إصلاح مشاكل الصرف الصحي التي يعجز أمامها وليد.