إقالة الحلبوسي... الحياة السياسية القصيرة للزعامة السنية في العراقhttps://www.majalla.com/node/304971/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%A5%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B2%D8%B9%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82
بإقالة رئيس البرلمان العراقي ورئيس "حزب تقدم" محمد الحلبوسي من منصبه- بقرار من المحكمة الاتحادية العراقية- يرتسم في الفضاء السياسي العراقي سؤال محوري: هل ما يجري بحق الحلبوسي، ومن قبله مع كل الزعماء السياسيين السُنة في العراق، هو مجرد صدفة؟ أم ثمة جهة سياسية مركزية في العراق، ذات هيمنة متجاوزة لكل اعتبار سياسي أو قانوني أو دستوري، تفعل ذلك بوعي مسبق وتخطيط استراتيجي واضح، تمارسه بحق كل السياسيين السُنة؟
فما يلبث أي سياسي سُني أن يبرز ويتحول إلى زعامة عامة متجاوزا منطقته المحلية، حتى تتم الإطاحة به بشكل ما.
في السياق ذاته، كان مراقبو الشأن الداخلي العراقي يطرحون أسئلة تفصيلية متعلقة بجوهر ما حدث مؤخرا مع الحلبوسي: هل كانت واقعة "التحريف الجنائي لورقة استقالة النائب ليث الدليمي" هي الأصل والسبب في إقالة الحلبوسي؟ أم إنها فقط الأداة والحجة الوظيفية، لتبرير وتشريع ما كان مُضمرا سلفا، أي استبعاد الحلبوسي من المشهد السياسي، أو إضعافه قدر المُستطاع في أقل تقدير؟
على المنوال نفسه، لو كانت الحادثة ذاتها قد حصلت مع زعيم سياسي عراقي آخر، غير سُني، شيعي أو كردي، هل كانت الأمور قد سارت في المجرى ذاته؟ وذلك في دولة ونظام سياسي شهدا قبل شهور قليلة عملية اختلاس بلغت قيمتها 2.4 مليار دولار من المال العام، ولم يُعتقل أي شخص.
قاطعت الغالبية المطلقة من المجتمعات السنية، وسط العراق وغربه، العملية السياسية عقب سقوط نظام صدام حسين
طوال عقدين كاملين من تاريخ العراق المعاصر، أُسقط الكثير من الزعماء السُنة على هذه الشاكلة، بدءا من نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، مرورا بوزير المال رافع العيساوي، ووزيرة التربية شيماء الحيالي، وزعيم "المشروع العربي في العراق" خميس الخنجر، ومحافظ الموصل أثيل النجيفي، وشقيقه نائب رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان أسامة النجيفي، ومثلهم سياسيون آخرون سنة كُثر.
الجامع المشترك بين كل هؤلاء كان بروزهم السياسي ضمن البيئة السُنية في العراق، واستحواذهم على مستويات من التمثيل الشعبي وشغلهم لمناصب سياسية وعامة، قد تسمح لهم برفض إملاءات واستراتيجيات النواة الصلبة الحاكمة للنظام السياسي في العراق الحديث. أو المطالبة والبحث عن شراكة متكافئة مع تلك النواة، المؤلفة بالأساس من الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة العراقية المقربة من إيران، والتي سيطرت خلال السنوات الماضية على مختلف مؤسسات النظام السياسي في البلاد ومراكزه.
طريق السنة إلى الاندماج
منذ عام 2003، حدث استقطاب شديد في البيئة السياسية والشعبية السُنية في العراق، فانقسم بحدة حول الاعتراف بالنظام السياسي الذي تأسس عقب إسقاط نظام صدام حسين، أو عدم فعل ذلك ومعارضته جذريا.
قاطعت الغالبية المطلقة من المجتمعات السنية في العراق، المتمركزة في محافظات وسط العراق وغربه، العملية السياسية عقب سقوط صدام حسين، متمركزة حول زعامات مثل الأمين العام لـ"هيئة علماء المسلمين" حارث الضاري، وقيادات سياسية من النظام السابق. بينما كان سياسيون آخرون، يمثلون أقلية في تلك البيئة، يعترفون بما جرى، ويحاولون خلق حضور وشراكة مع بقية أطراف المعارضة العراقية التي شغلت المشهد بعد سقوط النظام السابق، مثل: عدنان الباجه جي، ونصير الجادرجي، ومحسن عبد الحميد، وعدنان الدليمي.
تبدل المزاج العام ضمن البيئة السُنية عقب عام 2005. لأنه، وعلى الرغم من المقاطعة شبه المطلقة لسكان المناطق الوسطى والغربية لثلاث جولات انتخابية جرت في ذلك العام، الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية والانتخابات المحلية، إلا أن العملية السياسية بقيت مستمرة بوتيرة متسارعة، وسط عدم مبالاة بالمقاطعة السُنية. الأمر الذي جعل السُنة أكثر هامشية وأقل قوة بحكم الواقع المتقادم.
لأجل ذلك، ارتفعت الأصوات المطالبة بتغيير التوجه تماما، وهذا ما حدث. فالقاعدة الاجتماعية الأوسع من المجتمع السياسي والأهلي السُني اندمجت في تنظيم "الصحوات" خلال عامي 2006-2007، الذي كان له الدور الأبرز في مواجهة الإرهاب والقضاء عليه. كذلك شاركت القاعدة نفسها في الانتخابات البرلمانية التي جرت عام 2010 بكثافة استثنائية، منضوية في "القائمة العراقية" بزعامة إياد علاوي، التي حصدت غالبية مقاعد البرلمان. وقبلها كانت قد أعادت التوازن إلى الحكم المحلي من خلال المشاركة الكثيفة في انتخابات مجلس المحافظات مطلع عام 2009، ومن ثم في عام 2013 في الانتخابات المحلية نفسها. ومن بعدها المشاركة في الاحتجاجات السياسية والمطلبية اعتبارا من العام 2012.
السياق الاندماجي مع الكل الوطني ضمن البيئة السُنية لم يُحتضن من الطرف الآخر، بل العكس تماما هو ما حدث في مختلف المستويات والنماذج
هذا التبدل السياسي، المتمثل ميدانيا في تأسيس "الصحوات" والمشاركة في الانتخابات المحلية والبرلمانية، وعلى جنباتها تأسيس كثير من الأحزاب والتنظيمات المدنية، سمح ببروز الكثير من القيادات السياسية السُنية، ذات التمثيل والشرعية وتشغل مواقع بارزة في بنيان الدولة. وحدث تغيير في الهيئة العامة للزعامات السياسية السُنية، من زعامات دينية ومناطقية محلية أقرب لعمر الشيخوخة، إلى شخصيات سياسية مدنية، أكثر شبابا وتنظيما وقدرة على الحركة، سواء داخل مجتمعاتها أو في المحيط الإقليمي، وتملك خطابا سياسيا ومعرفة واضحة بالمطالب السياسية والخدمية لجماعاتها الأهلية ومناطقها، مع رؤية استراتيجية لتنمية هذه المناطق وضرورة خلق توازن سياسي في البلاد. وهو ما كان يثير حفيظة النواة الصلبة الحاكمة للبلاد.
نمطان من التحطيم
السياق الاندماجي مع الكل الوطني ضمن البيئة السُنية لم يُحتضن من الطرف الآخر، بل العكس تماما هو ما حدث في مختلف المستويات والنماذج.
فأعضاء تنظيمات "الصحوات" وقادتها، وبعد سنوات من مواجهتهم الإرهاب، لم يتم استيعابهم في الجيش والأجهزة الأمنية الحكومية الرسمية، بل قُطعت عنهم كل المخصصات بعد عام 2011، عقب خروج الجيش الأميركي من العراق، ولوحقوا بتهم مُختلفة.
إلى ذلك، فرغت المحكمة الاتحادية الانتصار السياسي في انتخابات عام 2010 من كل محتوى، عبر فتوى غريبة وقتئذ، صارت الغالبية البرلمانية بموجبها هي الجهة الناتجة عن التحالفات البرلمانية، وليست الكتلة الفائزة في الانتخابات. وتاليا فكك "ائتلاف العراقية" فعليا، وحُطمت زعاماته، وفُرض رئيس الوزراء نوري المالكي لدورة ثانية، على الرغم من كل ملاحظات وشكاوى البيئة السُنية من سياساته في الدورة الأولى.
حتى على مستوى الحكم المحلي في المناطق السُنية، تم استبعاد غالبية المحافظين المصوت عليهم من مجالس المحافظات المنتخبة، وعُين آخرون من قِبل رؤساء الوزراء، حسب صلاحيات استثنائية يملكونها. وفي مرحلة لاحقة جُمدت مجالس المحافظات المنتخبة عام 2013، ولم تجرِ الانتخابات المحلية حتى الآن. على المستوى نفسه، لم تبالِ النواة الحاكمة بالمظاهرات العارمة في المناطق السُنية، وجرى اتهامها والاشتباه بها بكل شكل، وفي مرحلة لاحقة مواجهتها بعنف محض.
الحذر الرئيس من قِبل الحاكمين يتأتى من إمكانية وقدرة أي سياسي سني على خلق انتظام عام واضح الملامح في البيئة السنية العراقية
طوال كل تلك السنوات، وقعت الزعامات السياسية السُنية ضحية هذا السياق من التعامل السلبي مع موجة الاندماج السياسي السُنية في الحياة العامة بالبلاد من قِبل الحاكمين؛ فنائب الرئيس طارق الهاشمي، وجهت إليه في عام 2011 تهمة المشاركة في العمليات الإرهابية عن طريق عناصر حمايته الأمنية، وتم نفيه خارج البلاد، ومحاكمته غيابيا. والقيادي في "جبهة التوافق" ونائب رئيس الوزراء رافع العيساوي غادر البلاد عام 2013، بعد احتمائه بالعشائر العربية في المناطق الوسطى، عقب توجيه اتهامات له بدعم الإرهاب في مظاهرات المنطقة الغربية. ورئيس البرلمان السابق وزعيم حزب "متحدون" أسامة النجيفي استبعد من موقعه كنائب لرئيس الجمهورية عام 2015، أثناء ما سماه رئيس الوزراء وقتذاك حيدر العبادي "الإصلاحات السياسية"، وشقيقه محافظ الموصل أثيل النجيفي تعرض لمحاولة اغتيال عام 2011، واتُهم بـ"التقصير وعدم التعاون" والتسبب في سقوط محافظة الموصل في قبضة تنظيم داعش، وأُقيل بسبب ذلك.
على المنوال نفسه انتهت الحياة السياسية "القصيرة" لمعظم القادة السياسيين السُنة في العراق، التي تراوحت خواتمها بين التهديد والتعرض لمحاولات اغتيال وضغوط عائلية، وبين مواجهة اتهامات بدعم الإرهاب أو الفساد... إلخ.
أُس التصفية السياسية
على العكس من كل التوقعات والمنطق السياسي الاعتيادي، فإن مناهضة النواة الصلبة الحاكمة، وإيران كجهة رعاية أساسية لها، ليست السبب الجوهري في عمليات الاستبعاد المتتالية للزعامات السُنية؛ فغالبية واضحة منها قبلت بسطوة هذه النواة المركزية والنفوذ الإيراني عليها وعلى العراق، ومع ذلك تم استبعادها. لأن الاندماج السياسي السُني مع المشهد السياسي العراقي العام، سواء بعد إقرار الدستور عام 2005، أو عقب القضاء على تنظيم داعش عام 2017، كان قد أتى في أبرز أوجهه بناء على ذلك الاعتبار وحسب تلك المعادلة.
تشكل السيرة السياسية لرئيس البرلمان محمد الحلبوسي إشارة واضحة في ذلك السياق. فالحلبوسي بدأ مساره السياسي عام 2017 محافظا لمحافظة الأنبار، بقبول من الأحزاب المركزية والفصائل المسلحة المقربة من إيران، التي كانت تسيطر ميدانيا على تلك المنطقة عقب تحريرها من تنظيم داعش. فيما بعد، حينما أصبح رئيسا للبرلمان عام 2018، كانت معلومات متقاطعة تقول إنه عُين بناء على توافق وقبول من قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، الذي كان الحاكم الفعلي للعراق وقتذاك. وبقي ملتزما فعليا بكل الخطوط العامة للنفوذ الإيراني والأحزاب المقربة منه في العراق.
لم يطرح الحلبوسي أيا من القضايا السُنية ذات الحساسية بالنسبة للنواة الحاكمة أو النفوذ الإيراني، من سيطرة الميليشيات على المناطق السُنية مرورا بملف المختفين والمدن والبلدات السُنية التي تعرضت لتغيير ديموغرافي. كذلك حافظ على مسافة واضحة من بقية القوى السياسية العراقية المناهضة للنفوذ الإيراني، سواء "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، أو "التيار الصدري" أو حتى القوى السياسية السُنية المعارضة جذريا للنفوذ الإيراني. وغالبا كان يتبنى خطابا سياسيا أقرب للمزاج الإيراني في العراق.
ومع كل ذلك، تم استبعاد الحلبوسي، ومثله بقية القيادات السُنية العراقية، الراضية بالنفوذ الإيراني واستطالاته العراقية، والواعية بالخطوط العريضة للسياسة العامة في البلاد، وحذرة مما قد يقلقها. ومع كل ذلك واجهت مصائر متشابهة.
في الأساس، يبدو أن مستوى وحجما معينا من الحضور الجماهيري والتمثيل السياسي قد رسم لكل زعامة سياسية سنية في العراق، ويتم إنهاء الحياة السياسية لكل شخصية سياسية تقترب من ذلك المستوى، وحتى قبل محاولة تجاوزه؛ فالحذر الرئيس من قِبل الحاكمين يتأتى من إمكانية وقدرة أي سياسي سني على خلق انتظام عام واضح الملامح في البيئة السنية العراقية، يستجمع قواها العامة ويخفف من مستويات التناقض داخلها، ويمكنها، ولو مستقبلا، من اتخاذ مواقف وقرارات سياسية قد تمس مركزية وسطوة قوى النواة الصلبة في العراق، لأجل ذلك يتم إنهاء الحياة السياسية لأي منهم قبل بلوغ ذلك.