نازحون في جنوب غزّة لـ"المجلة": نخاف المطر ونخشى ألا نعودhttps://www.majalla.com/node/304951/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%86%D8%A7%D8%B2%D8%AD%D9%88%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8-%D8%BA%D8%B2%D9%91%D8%A9-%D9%84%D9%80%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AC%D9%84%D8%A9-%D9%86%D8%AE%D8%A7%D9%81-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B7%D8%B1-%D9%88%D9%86%D8%AE%D8%B4%D9%89-%D8%A3%D9%84%D8%A7-%D9%86%D8%B9%D9%88%D8%AF
غزة: لم تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية على مدار سبعة وأربعين يوما من الحرب على قطاع غزة، عن إكراه الفلسطينيين على الخروج من بيوتهم، من شمال قطاع غزة، إلى جنوبه. فنزح أكثر من 950 ألفا إلى مناطق أخرى في قطاع غزة، حسبما أوضحت إحصاءات الأونروا، وتتركز موجات النزوح نحو جنوب القطاع، اعتقادا من الناس بأن هذه الأماكن أقلّ خطرا، على الرغم من عدم التوقف عن استهدافها طوال أيام الحرب، فالكثير من البيوت دمِّر على رؤوس ساكنيه في مدينة رفح، وخانيونس، ومخيم النصيرات والبريج والمغازي، وهي المناطق التي حدّدها الاحتلال بأنها ليست أماكن للعمل العسكري، لكن الموت بفعل الحرب لم يتوقف في جميع أنحاء القطاع، حتى بعد إعلان الهدنة الإنسانية وعقد صفقة تبادل الأسرى.
جميع النازحين هربوا من بيوتهم تحت وطأة القصف الشديد، ولم يحملوا معهم إلا القليل من الملابس، التي سرعان ما أصبحت غير مناسبة في ظل تقلب الأجواء، واقتراب دخول فصل الشتاء، وبدء المنخفضات الجوية في قطاع غزة.
أزمة بضائع
في جنوب قطاع غزة، وهي المناطق النائية عن المركز، وبالتزامن مع إحكام الاحتلال الحصار على القطاع بأكمله، تضاعفت حدة الأزمة المعيشية لدى الناس، سواء من سكان الجنوب الأصليين، أو من النازحين من شمال القطاع ووسطه.
كنت أحب الشتاء، وأتمنى أن يكون العام كله زخات مطر، لكن الآن ماذا أفعل، كيف أواجه وعائلتي الشتاء، كيف يمكن أن أنجو بهم من الأمراض بفعل بقائنا هنا في العراء؟
النازح خالد السيد أحمد
وقد أجبرت الكثافة السكانية العالية، الكثير من العائلات على النزوح إلى الأماكن الفارغة في جوار مراكز الإيواء التابعة للأمم المتحدة، بسبب امتلاء جميع المراكز عن آخرها. ومنحت الأونروا النازحين قطعا من النايلون المقوى مع بعض الأدوات البسيطة التي مكّنتهم من صنع خيم صغيرة، تحوي آلامهم وأجسادهم وتمنحهم بعض الخصوصية خلال النوم، تلك الي فقدتها جميع العائلات التي نزحت إلى مراكز الإيواء، حيث تدمج السيدات والأطفال من العائلات المختلفة، فيما يقبع الرجال في غرف أخرى، ولنا أن نتخيل كيف يكون الحال، جسديا، وصحيا، ومعنويا، في طريقة الدمج هذه.
مع بدء المنخفض الجوي، انطلقت الرياح عاصفة بكل شيء أمامها، وأصبحت تجمعات الخيم الخاصة بالنازحين في مهب الريح حرفيا، فلا تقوى تلك القطع من الجلود أو النايلون، على الصمود في وجه الريح العاتية التي جاءت مع المنخفض، والتي يصحبها عادة مطر غزير، فضلا عن أن معظم النازحين لا يجدون الملابس الثقيلة التي تقيهم البرد، فأصبحت معظم تلك العائلات في أماكن النزوح تواجه بأجسادها قسوة البرد والرياح والمطر، ولا يمكن أن نصف مشهد امرأة تحتضن طفلها الرضيع تحت المطر، وتهرب به من الرياح التي اقتلعت خيمتها.
أما تلك الخيم التي بقيت في أماكنها، فقد تسلل المطر إلى الأغطية والفراش الخفيف في داخلها، والذي حمله النازحون معهم، أو حصلوا عليه من أهلهم ومعارفهم في الجنوب.
قصص النازحين مع المعاناة لا تنتهي، ولا يمكن حصرها، ففكرة التهجير من المنزل تعني البدء في مكان آخر من نقطة الصفر، وتحمل ويلات النواقص الكثيرة في مكان جديد، فكيف إذا كان المكان مركز إيواء جماعيا مكتظا، يُفقد الشخص خصوصيته، وأمانه الصحي، وصوته الداخلي الهادئ. كل هذا البؤس تأتي زخات المطر القوية والرياح، لتزيد سطوته.
كارثة تلوح مكانها
لا يمنح الحديث عن بدء الهدنة الإنسانية، النازحين الفلسطينيين الأمان الكامل، فالأمطار قادمة، والخطر من المبيت في الخيم الضعيفة، لا يزال يهدد العائلات، طالما أن وقف إطلاق النار النهائي لم يتحقق، ولم يلح في الأفق إمكان عودة النازحين إلى بيوتهم الأصلية، أو ما بقي منها. فتبقى يد الكارثة تلوح مكانها، وتستمر في تهديد آلاف الأطفال وعائلاتهم بفعل الحرب المبطنة، التي تستمر على الرغم من توقف القتال العسكري.
يقيم النازح خالد السيد أحمد (35 عاما) عند مدخل مركز إيواء مدرسة رفح الأساسية للبنين، ويقول لـ"المجلة": "لقد هبّت الرياح قبل المطر، وهذه الخيمة لا تقي أطفالي وزوجتي البرد القارس، ولا يمكن أن تقف في وجه الريح".
ويكمل: "كنت أحب فصل الشتاء والمطر، وأتمنى أن يكون العام كله زخات مطر، لكن الآن ماذا أفعل وقد هجّرنا الاحتلال الإسرائيلي من بيوتنا، كيف أواجه وعائلتي الشتاء، كيف يمكن أن أنجو بهم من الأمراض بفعل بقائنا هنا في العراء؟".
ويضيف السيد أحمد بقلق كبير: "لا أعرف ماذا سنفعل إن طالت مدة الحرب، وكيف يمكن أن نستمر على قيد الحياة في ظروف تكاد تفتك بصحتنا وصحة أطفالنا، بتّ أخشى الليل الذي يأتي بالبرد الشديد، بالإضافة إلى اشتداد المطر أكثر فأكثر".
لقد تمكن الاحتلال من مسح الصور الجميلة من أذهاننا، فصرنا نخاف المطر، صرنا خائفين من مستقبل لا نعود فيه إلى منازلنا
النازح أمجد الغلبان
ألم متجدّد
أما السيدة نجود البسيوني (40 عاما) التي نزحت من شمال قطاع غزة إلى رفح، فتسرد لنا قصة جديدة مع المعاناة: "لديّ ثمانية أطفال، وزوجي يمر بحالة صحية صعبة، لقد تحملنا تعب الطريق الطويلة، بالتهجير إلى رفح، ثم وجدنا أنفسنا دون مأوى، فلا نستطيع استئجار منزل داخل الجنوب، ولا يوجد لنا مكان داخل مراكز الإيواء، حيث أخبرنا المسؤولون أن المكان ممتلئ، وأعطونا أدوات لننصب خيمة ونقيم فيها".
تكمل البسيوني حديثها وقد فر الدمع من عينيها وهي تسرد قصة الألم الفلسطيني الحديث: "جلسنا في الخيمة، وصففت الأطفال أول يوم على بطانية واحدة حصلنا عليها من مركز الإيواء، إذ رفض العاملون تسليمنا فرشات للنوم، بحجة أننا وصلنا متأخرين".
وتضيف بحسرة: "نحاول التأقلم مع الوضع، لكن وصول المطر فاقم المصيبة. كيف سأواجه وعائلتي وزوجي المصاب بالفشل الكلوي الأيام المقبلة؟ ماذا سأفعل وقد ابتلت البطانية التي ننام عليها، ألا يكفي وجع ظهورنا من النوم على الأرض؟ ألا يكفي أننا ننام في خيمة لا تقينا برد النهار والليل؟ أطفالي لا يتوقفون عن البكاء لعدم قدرتهم على تحمل هذه المعاناة، واثنان منهم أصيبا بنزلات البرد وأوجاع في الأذنين، بالإضافة إلى أن الخطر يزداد على حياة زوجي، بفعل الطقس السيئ".
فكرة التهجير من المنزل تعني البدء في مكان آخر من نقطة الصفر، وتحمل ويلات النواقص الكثيرة في مكان جديد
أريد العودة الى منزلي
أما الحاجة فتحية حميد (72 عاما)، التي نزحت من مدينة غزة الى رفح، فتقول "أخرجنا من منازلنا بالقوة، بعدما تقدّمت الدبابات داخل شارعنا وطالبتنا بالإخلاء، بقينا في غزة لأطول وقت ممكن وتمسّكنا بأرضنا حتى آخر رمق، والآن لا نجد لنا مأوى، نقيم تقريبا في الشارع، فهذه الخيمة بالأمس اقتلعها الريح، والمطر يبلل ملابسنا، وأنا سيدة مريضة لا أحتمل هذا البرد". تتساءل بحسرة: ما الذنب الذي اقترفناه نحن المدنيين حتى نلقى في الشوارع يلتهمنا المطر وتهاجمنا الكلاب في الليل، أريد العودة إلى منزلي، فلا يحق لأي أحد أن يفعل بنا هذا".
أما المدرّس أمجد الغلبان (52 عاما) فيقول لنا: "تجربة قاسية، لم أكن أتخيلها، أن أبيت في خيمة في العراء قسرا، مواجها الجوع والإذلال أنا وعائلتي، إنها نكبة جديدة يرتكبها الاحتلال في حق الشعب الفلسطيني".
يضيف: "لقد نجوت وأطفالي من موت محقق، إذ كان القناصون يلاحقوننا بالرصاص خلال رحلة الهرب إلى الجنوب، تجربة رعب وقلق وهلع لا يمكن تفسيرها سوى بوحشية هذا العالم الصامت على ما يحدث... لقد حصلت على خيمة عند مدخل مركز الإيواء، لكن يا لها من مفارقة، أن مدرسة تشبه هذه في الشمال شهدت عزي وفخري، ورسالتي السامية في التعليم، والآن مدرسة أخرى في الجنوب تشهد ذلي وأطفالي، فمع بدء المطر، غرقنا في الماء جميعا، وابتلت الفرشات التي ننام عليها، وكادت الخيمة التي تؤوينا، أن تطير من شدّة الرياح، لقد أصبح معظم أطفالي مرضى، ولا أملك ثمن الدواء المطلوب لعلاجهم".
يتابع المدرّس النازح: "في ظل أن دخلنا محدود، وأننا لم نتلق راتبنا هذا الشهر، وكذلك لم أجلب الملابس الشتوية الكافية من منزلي، فإنني لا أستطيع توفير ملابس دافئة لأطفالي، في ظل شحّ الملابس هنا، وإن وجدت فهي مرتفعة الأسعار بفعل ازدياد الطلب عليها".
ويختتم بالقول: "لا أريد سوى العودة إلى منزلي، أمان عائلتي، ومكاننا الدافئ الذي اعتدنا عليه وكنا نحب داخله الشتاء، ونقف على شرفاته نلاحق المطر بأيدينا أنا وأطفالي، لقد تمكن الاحتلال من مسح الصور الجميلة من أذهاننا، فصرنا نخاف المطر، صرنا خائفين من مستقبل لا نعود فيه إلى منازلنا في غزة".