في انعطافة غير متوقعة للأحداث، عاد أسامة بن لادن إلى دائرة الضوء مرة أخرى، خلال الأسبوع الماضي، على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من مضي ما يقرب من 13 عاما على قتله من قبل أميركا. جاءت الموجة الجديدة لتعيد زعيم تنظيم "القاعدة" الى وسائل التواصل الاجتماعي. واشتعلت شرارة هذه العودة من خلال إعادة اكتشاف وثيقة "رسالة إلى أميركا"، التي صدرت عام 2002 وفيها تبرير لهجمات 11 سبتمبر/أيلول التي شنها التنظيم على الولايات المتحدة الأميركية.
وأغرق نشطاء التواصل الاجتماعي صفحاتهم بمقاطع فيديو تحث أتباعهم على "التعمق" في الرسالة، ملمحين إلى الصحة المحتملة لحجج بن لادن، وحصدوا آلاف من المشاهدات. ونتيجة لذلك، اكتسبت مقاطع الفيديو والملصقات ومقتطفات من خطابات بن لادن التي تحمل علامة تنظيم "القاعدة"، زخما ملحوظا. والسؤال هنا هو: كيف استطاع أحد الإرهابيين الأكثر شهرة على الإطلاق أن يجذب الجماهير فجأة؟
يبدو أن الاتجاه الجديد المقلق اشتعل على منصة "تيك توك" عندما نشر أحد النشطاء مقطع فيديو في 13 نوفمبر/تشرين الثاني يقرأ فيه مقتطفات من رسالة بن لادن إلى أميركا. وفي هذه الوثيقة، برر الزعيم الإرهابي هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، مستشهدا بدعم الولايات المتحدة للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وفي أقل من 48 ساعة، أصبحت الرسالة موضوع نقاش واسع النطاق بين نشطاء المنصة. وشارك أفراد من خلفيات متنوعة مقاطع فيديو تشير إلى أن كتابات بن لادن قدمت رؤى جديدة حول السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وخاصة دعم أميركا الثابت لإسرائيل، ما أدى إلى تغيير وجهات نظرهم الجيوسياسية. وبحلول بعد ظهر الخميس، أعلنت منصة "تيك توك" عن حظر الوسم ومشتقاته، ولكن ليس قبل أن تحصل مقاطع الفيديو هذه على أكثر من 15 مليون مشاهدة.
يشير الخبراء إلى أن كثيرا من صانعي المحتوى قاموا بمشاركة المحتوى على منصة "تيك توك" بهدف نشره بسرعة، دون إجراء فحص دقيق لرسالة بن لادن أو فهم سياقها التاريخي
وامتد هذا الاتجاه إلى ما هو أبعد من منصة "تيك توك"، مع ظهور مقاطع فيديو مماثلة بشكل متزامن على منصات التواصل الاجتماعي المختلفة. وفي الفترة من 14 إلى 16 نوفمبر/تشرين الثاني، ارتفع معدل الإشارة إلى اسم بن لادن على موقع "إكس" (تويتر سابقا) من حوالي 5000 إلى 230 ألف إشارة، أي إنه تضاعف بنسبة 4300 في المئة. كما ارتفعت نسبة ذِكْر عبارة "رسالة إلى أميركا" بنسبة تزيد على 1800 في المئة، من حوالي 4800 إلى 100 ألف إشارة، وحصلت على 719 ألف ظهور عبر المنصة. وعلى موقع "يوتيوب"، زادت عمليات البحث عن اسم أسامة بن لادن بنسبة 400 في المئة في الفترة ما بين 14 و16 نوفمبر/تشرين الثاني، وفقا لتقارير مؤشرات "غوغل". كما أصبحت الوثيقة بحثا شائعا أيضا على منصة "إنستغرام".
وتساهم عدة عوامل في هذه السلسلة المفاجئة من الأحداث. أولا، يعد الطابع غير المتوقع لوسائل التواصل الاجتماعي عاملا حاسما في بدء هذا الاتجاه ونشره. وعادة ما يقود مؤثرون معروفو الاتجاهات على منصات التواصل الاجتماعي ليتبناها متابعوهم بعد ذلك، ولكن بعض الاتجاهات الأخرى، مثل تلك قيد المناقشة حاليا، تظهر بشكل أكثر عفوية ويصعب إعادة إنتاجها. تتبع التحليل الجنائي أصل هذا الاتجاه إلى منشور لأحد مستخدمي منصة "تيك توك" يملك 371 متابعا فقط. ويتزامن توقيت نشر هذا الفيديو مع الاستياء المتزايد تجاه السياسة الخارجية الأميركية الداعمة لإسرائيل، وأثار سلسلة من ردود الفعل التي اتخذت مسارها الخاص.
العامل الثاني، يندرج في سياق المشهد المعقد لوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، حيث يساهم الشبان بشكل كبير في تداول المنشورات بسرعة كبيرة، متجاهلين في كثير من الأحيان مصداقية المحتوى. ويشكل هذا الوضع خطرا خاصا نظرا لاعتماد الكثير من النشطاء على وسائل التواصل الاجتماعي كمصدر رئيس للأخبار والمعرفة. ويشير استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث إلى أن 14 في المئة من البالغين الأميركيين يزعمون أنهم يتلقون الأخبار بانتظام من منصة "تيك توك"، وهي منصة تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 29 عاما، حيث يحصل ثلثهم تقريبا على الأخبار والمعلومات من خلالها. ويعتبر هذا الرقم أقل من نسبة استخدامهم لمنصة "فيسبوك" (30 في المئة)، ويتجاوز نسبة استخدامهم لـ"تويتر" (12 في المئة)، على الرغم من انتشار المنصة الأخيرة بشكل واسع بين الصحافيين.
ثالثا، يسلط نشر الرسالة على نطاق واسع ومشاركتها دون فحص نقدي، الضوء على قضية هامة تتعلق بالتثقيف الإعلامي؛ إذ يشير خبراء إلى أن كثيرا من صانعي المحتوى قاموا بمشاركة المحتوى على منصة "تيك توك" بهدف نشره بسرعة، دون إجراء فحص دقيق لرسالة بن لادن أو فهم سياقها التاريخي. وكان هذا الاتجاه واضحا أيضا في مقاطع الفيديو المنشورة، حيث اعترف كثير من صانعي المحتوى بعدم امتلاكهم لمعلومات كافية حول أسامة بن لادن.
وفي سياق متصل، زعم آخرون أن ما اكتسب الاهتمام لم يكن الرسالة بأكملها، بل قراءة انتقائية تركز على الأجزاء التي تتماشى مع وجهات نظر مروجيها وتتجاهل ما تبقى من الرسالة. وظهر هذا الترويج الانتقائي جليا في تجاهل أولئك الذين قاموا بالترويج للرسالة للأجزاء الأخرى التي تبرر قتل المدنيين العزل.
هناك حاجة ملحة لأن تقوم الحكومات ومنصات التواصل الاجتماعي باتخاذ إجراءات حاسمة لوقف انتشار مثل هذا المحتوى السام بين المستخدمين الشباب
أما العامل الرابع، فيتعلق بمحاولات قمع هذا المحتوى دون تقديم أي توضيحات مما يؤدي إلى تداعيات غير مقصودة. ويُشار إلى أن كثيرا من مقاطع الفيديو على "تيك توك" ظهرت بعد أن قامت صحيفة "الغارديان" البريطانية بإزالة نسخة من الرسالة سبق وأن نشرتها، بعد انتشارها على نطاق واسع. وفسر البعض هذا الإجراء على أنه دليل على أهمية الرسالة، مما أثار ردود فعل تعتبر الرقابة جزءا من مؤامرة منسقة.
وللمسألة جانب آخر، وهو صراع المنصات على فرض شروطها وأحكامها، حيث يتناقض محتوى بن لادن مع قوانينها. وبعد فشلها في منع هذا الاتجاه، استجابت منصات مثل "تيك توك" بحظر مصطلحات البحث مثل "رسالة إلى أميركا". وعلى الرغم من العواقب العكسية والجهود المبذولة لحجب هذا المحتوى على منصات التواصل الاجتماعي، استمر انتشاره. بالإضافة إلى ذلك، تعمل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي، مثل "تيك توك"، على إدامة الدوافع السلبية من خلال تعريض المستخدمين لمحتويات مماثلة، للتعتيم على الخطاب المنطقي.
لا تزال آثار هذا الاتجاه الأخير على المستخدمين الذين تفاعلوا مع المحتوى المؤيد لأسامة بن لادن وموقفهم من آيديولوجيته غير مؤكدة. ومع ذلك، هناك حاجة ملحة لأن تقوم الحكومات ومنصات التواصل الاجتماعي باتخاذ إجراءات حاسمة لوقف انتشار مثل هذا المحتوى السام بين المستخدمين الشباب. إن تجاهل هذه القضايا البنيوية الأساسية يحمل في طياته تأثيرا عالميا لا يمكننا ببساطة أن نتحمل ثمنه.