لا يوجد فلسطيني لا يتمنى هزيمة إسرائيل، الاستعمارية الاستيطانية العنصرية العدوانية المصطنعة حقا، اليوم قبل الغد، واستعادة حقوقه؛ حريته وكرامته وأرضه، مرة وإلى الأبد.
على ذلك، فإن نقاشات بعض الفلسطينيين، التي تأخذ، في تسرعها وعواطفها وحماسها، بعض الخلافات في وجهات النظر نحو ثنائيات خاطئة ومضرة، من نوع وطني أو خائن، ثوري أو منهزم، في مشابهة مع عقلية التكفير (مؤمن/كافر)، هي على الضد من السياسة، باعتبارها فعلا بشريا، غير معصوم من الخطأ، وباعتبارها فعلا يتطلب المشاركة، كما المراجعة والمساءلة والمحاسبة والنقد، سيما إذا كان الأمر لا يتعلق بترتيبات كيان سياسي لأوضاعه، وإنما يتعلق بخيار سياسي أو كفاحي يتطلب من الشعب تقديم الأثمان الباهظة من أجله.
في الواقع، فإن التبرّم من النقد بات بمثابة عادة فلسطينية، كرستها الفصائل السائدة منذ نصف قرن، بل ونقلت عدواها إلى المجتمع الفلسطيني، حتى غير الفصائلي، بحيث بات كل صاحب وجهة نظر يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، وأنه من "الفرقة الناجية"، بل ويسمح لنفسه بمنح هويات وطنية لغيره أو حجبها عنه.
مع صعود العمل الوطني الفلسطيني، أواخر الستينات وفي السبعينات، جرى تقنين النقد بحصره داخل الأطر الفصائلية (أو القبلية)، بدعوى عدم نشر "الغسيل القذر"، في الخارج، وذلك لتجنب المراجعة والتهرب من تحمل المسؤولية والمحاسبة، علما أن الخارج هو الشعب الذي يشارك بدفع الأثمان من دون أن يسمح له بالمشاركة في صوغ السياسات، وتحديد الخيارات والتقرير في شؤون حياته ومماته.
بيد أن هذا الوضع استفحل فيما بعد؛ إذ لم يعد التبرم من النقد يقتصر على طلب حصره داخل الأطر فقط، إذ بات يتطلب طرحه، فقط، في الزمان والمكان المناسبين، بدعوى أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وعدم نشر الإحباط، أو "وهن عزيمة الأمة" (بتعبيرات نظام المقاومة والممانعة)، ما أضفى نوعا من القدسية على خيارات القيادات، رغم أنها تخص الشعب كله، علما أن أصوات هذه الشعب، مقموعة، أو محجوبة، قبل أي معركة، وأثناءها، وبعدها، وعلى امتداد التجربة الفلسطينية الطويلة، وعلما أن الواقع أكثر إيلاما وتعقيدا ومرارة من مجرد وصفه.
وفي المحصلة، فإن التبرم من النقد هو نتاج عقلية غيبت الحياة السياسية في الحركة الوطنية، في المنظمة والسلطة والفصائل، ورسخت البنية الأبوية والعشائرية في تلك الكيانات، عزز منها حال "التفرّغ"، الذي وسع قاعدة الموالين للزعيم والقيادة والفصيل و(رب العمل)، مع الافتقاد للحراكات الديمقراطية الداخلية، فالأمين العام للجبهة الديمقراطية (منذ أكثر من نصف قرن)، مثلا، بات أمينا عاما للأبد، وهذا ينطبق على الرئيس محمود عباس، الذي يحتل مكانه في القيادة منذ ستة عقود، منها 18 عاما كرئيس للمنظمة والسلطة و"فتح"!
وفي النتيجة، فإن ذلك أدى إلى نأي القيادة الفلسطينية بنفسها عن تحمل أية مسؤولية عما حصل في الأردن، وبعدها في لبنان، ثم في الأرض المحتلة، كما عن تدهور حال الأطر الوطنية الجامعة (المنظمة والسلطة والفصائل)، وتراجع فاعليتها، وانحسار شعبيتها، وهذا يشمل عدم تحميلها مسؤولية عن الخيارات التي انتهجتها في كل مرحلة، بإخفاقاتها ونجاحاتها، من الكفاح المسلح إلى الانتفاضة الشعبية مرورا بالانتفاضة المسلحة، وصولا إلى المفاوضة، علما أننا إزاء حركة وطنية عمرها 58 عاما، مع تجارب مريرة وباهظة وغنية، تضمنت تضحيات وبطولات، لشعب معروف بأنه الأكثر تسييسا في العالم العربي!
ما يفترض إدراكه أن لا شيء مقدسا في العمل السياسي، لا الشعارات ولا البنى ولا أشكال العمل، فتلك كلها وسائل من أجل الشعب، وليس العكس، كما هو حاصل، بمعنى أن كل شيء يجب أن يخضع للفحص والتجربة والنقد والمحاسبة، بقدر ما يتعلق الأمر بدائرة المعنيين أو المتأثرين من أي قرار أو خيار سياسي أو كفاحي.