1.
تميّزَ الفكرُ الحديث عامّة، لا في الشعر وحسب، بملمح جديد، يولد في ثقافة ذات طابع دينيّ غالب. هذا الملمَح الجديد هو اعتبار المكان بمفهومه الاجتماعيّ – السياسيّ والجغرافيّ بُعدا أساسيا من أبعاد الهوية. صار المكان قطبَ انْتماء واكتسب قدسيّة. وإذا كان هذا الاتّجاه واضحا منذ أربعينات القرن الماضي بتأثيرات وطنيين مناضلين ومفكرين علمانيين، فإنّ تأثيرَ حركة المقاومة الفلسطينية وشعر القضيّة الفلسطينية سوف يسهمان في تعزيز هذا الفكر، ويُفضيان منذ الستينات الى رؤى اندماج الأنا بالمكان واتّخاذ الأرض صورةَ الأم والحبيبة، بل هويةَ المقدَّس.
2.
هذا التصوُّر للهوية المندمجة بالمكان، الهوية التي لا تمتلك حضورا بانفصال عن المكان، حتى لو اقترنت بالسُّلالة، هي من أبرز التطوّرات الفكريّة في حركة الحداثة. وقد ذهب أبطال المقاوَمتين الفلسطينية واللبنانية بعيدا في تجسيد هذا التّصوُّر، الى حدّ يتجاوز فيه الالتحامُ الجسديُّ الفعليُّ بالأرض المستوى المجازيَّ والنّظريَّ إلى الحقيقيّ. ويمكن أن نعتبر هذا جوابَ المقاومة العالي على سؤال الهوية، وكذلك جوابَ التّمرُّدات اللبنانية الذي فجّرَ الحربَ الأهليّة.
3.
يمتلك سؤالُ الهوية، كما تطرحُه أفكارُ حركة الحداثة، خصوصيّة، ويقدّم مؤشّرا على تحوّل فكريّ بل معرفيّ كبير. ذلك أنّ الصّيَغ التي طُرح بها هذا السؤال، ولا سيّما في نصوص المبدعين الكبار، في الشعر والرواية، لم تتناول الهويةَ كماهيّة، أي كخصائص جوهرية مُطلَقة مُتَعالية على التاريخيّ، وإنما طُرح السؤال على أساس أنّ الهويةَ "كيفٌ" وصيرورة. فحصل التحرُّكُ من سؤال "ما أنا" أو "من أنا" كنَسَب أو سلالة، الى سؤال اجتماعيّ – حضاريّ هو "كيف أكون" و"ماذا أحقّق". وأثرُ الفكر الحَداثيّ واضحٌ في هذا التحوُّل.