يتزامن منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني في لبنان مع ظاهرة غريبة تتمثل في مشهد أطفال لبنان، لا سيما الذين لا يزالون في صفوف الحضانة والروضات، يرتدون الألبسة العسكرية ويرفعون الأعلام اللبنانية، في تقليد أعتبره شخصيا غير مناسب من أجل الاحتفال بذكرى استقلال لبنان الذي يصادف يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني من كل عام؛ فـلبنان الذي بلغ عامه الثالث بعد المئة يحتفل هذه السنة بمرور ثمانين عاما على نيله استقلاله من الانتداب الفرنسي الذي أعلن عن تأسيس دولة لبنان الكبير عام 1920 عبر صهر الساحل اللبناني أو السوري والبقاع مع جبل لبنان، على أمل أن يتحول هذا الكيان الهجين مع مرور الوقت إلى أمة لبنانية منصهرة وتكون بطبيعة الحال صديقة أو حتى تابعة لفرنسا ومشروعها الاستعماري.
يُلقن التلاميذ اللبنانيون على مقاعد الدراسة أن استقلالهم سنة 1943 كان نتيجة تلاقي لبنان بجناحيه المسلم والمسيحي تحت القيادة الحكيمة لرئيس الجمهورية الماروني بشارة الخوري، ورئيس الوزراء السني رياض الصلح، والتي أنتجت الميثاق الوطني، مما فتح الطريق إلى تأسيس جبهة مشتركة وطنية لطرد الاحتلال الفرنسي.
بطبيعة الحال تلك النسخة المعقمة من نضال لبنان لنيل استقلاله لا تذكر الدور المحوري للجنرال إدوارد سبيرز، أول وزير مفوض بريطاني في سوريا ولبنان والذي عين في شهر فبراير/شباط عام 1942 وما لبث أن قاد حملة- عكس تعليمات ونستون تشرتشل رئيس حكومته- سياسية مركزة ضد حكومة "فرنسا الحرة" التي اعتبرت أن انتدابه يضر بمصالح الحلفاء في الشرق الأوسط. فكره الجنرال المحافظ البريطاني لفرنسا والجنرال شارل ديغول استندت إلى قناعة سائدة ضمن الأوساط البريطانية بانهزامية فرنسا وتواطؤ حكومة فيشي مع النازيين، و"تكبر ووقاحة (زعيم "فرنسا الحرة" شارل) ديغول"، بحسب سبيرز.
تدخل القوى العظمى في سياق التحركات التحررية الاستقلالية لا ينفى شرعية النضال نفسه. المستعمرات الأميركية الثلاث عشرة، على سبيل المثال، حصلت على دعم فرنسي عسكري ومادي أثناء الثورة الأميركية على بريطانيا الأم. لكن حكمة "الآباء المؤسسين" وتبصرهم للمستقبل دفع بهم إلى حبك دستور وعقد اجتماعي يتجاوزهم كطغمة حاكمة ويمتد بين الشعب والحاكم بغض النظر عن هويته المستقبلية.
أما الميثاق الوطني اللبناني الذي مهد الطريق إلى استقلال لبنان فلم يتجاوز حقيقة أنه اتفاق شفهي بين زعماء الطائفتين الكبيرتين فجرى الاتفاق بين الجبل والساحل من دون أي اعتبار للأطراف اللبنانية التي بقيت خارج هذا الميثاق النخبوي الذي جعل من الاقتصاد الليبرالي الدستور الحقيقي للبنان، في ظل رهان تكتل (كونسورتيوم) كبار التجار المحيط بالطبقة الحاكمة على حكمة وبصيرة شركائهم السياسيين في تأمين استمرارية الحكم والالتزام بحياد لبنان الذي يشكل قوام الميثاق الوطني.
بطبيعة الحال سقط هذا الرهان مع جنوح السياسة اللبنانية للمشاريع الإقليمية بصيغها العروبية والغربية فدخلت عقيدة آيزنهاور وحلف بغداد وعروبة جمال عبدالناصر المزعومة في زواريب السياسة المحلية وأصبح لبنان لا سيما بعد تنازل الدولة اللبنانية عن سيادته عبر توقيع اتفاق القاهرة سنة 1969، ساحة مفتوحة للصراعات المحلية المتترسة بالصراع العربي الإسرائيلي.