قصيدة النثر
-
بدأت بالقصيدة العمودية وانتهيت بقصيدة النثر فما الذي حققته لك القصيدة النثرية؟
أميل إلى الحديث عن قصيدة النثر باعتبارها صندوقا مملوء بالذهب والألماس محكم الإغلاق وقع بين يدي، وكلما حاولت أن أفتح واحدا من أقفاله العديدة، يتعذر عليّ ذلك، تكرار المحاولة للوصول إلى هذا الكنز الثمين هو ما علمتني إياه قصيدة النثر، كون هذه القصيدة لا تملك سمات جاهزة كعلامات على الطريق ترشد السالك كي لا يضيع. قد يكون الكنز متوهما ولا يوجد سوى في الخيال. لكنه ابتكر لي طريقا للبحث والفضول المعرفي الأدبي، وأصبح الحافز القوي في محاولة فهم النص والإنسان والعالم.
-
عندما تكتب الشعر هل تسيطر على الناقد الذي بداخلك أم تتركه حرا؟
لا أعلم أين تنتهي حدود الشاعر من حدود الناقد في داخلي لحظة الكتابة، ولا أستطيع أن أرسم خطا بالقلم والمسطرة، ثم أقول هذه هي الحدود القائمة في ما بينهما. يمكن القول فقط حول هذه المسألة، إن تراكم التجربة في النظر والكتابة هو الذي يحدد من هو المسيطر، رغم عدم إيماني المطلق بهذه الحدود، فالأمر يتعلق بالنهاية بتراكم التجربة وشرط قدرتها على تجاوز نفسها. وعلى سبيل المقال، في بداياتي الشعرية، وبالتحديد مجموعتي الثانية "أخف من الريش، أعمق من الألم" كانت أجواء المجموعة في غالبيتها واقعة تحت الهاجس الفلسفي الموجّه نقديا والمأخوذ بتلابيب السرد، رغم بعض الملامح من الشعرية الخالصة في بعض النصوص. لكن مثل هذه الأجواء اختفت تماما في المجموعات اللاحقة، وأصبح الموجّه النقدي وحساسيته مدمجا لصالح الشعرية في الكتابة، والأمر يعود كما قلت لهذا التراكم في التجربة.
-
كيف يبدو تعاملك مع اللغة وهل تطوعها بسهولة، وأنت تحلق في فضاء الشعر؟
تعلمت أن كل لغة مثقلة بحمولاتها التاريخية، وكل كلمة داخلها لها تاريخ مثقل بالمعاني والتأويلات والتفاسير، فك الارتباط بهذه الحمولات ووضعها في سياقات مختلفة من الكتابة الشعرية هما اللذان جعلاني منذ بداياتي أنجذب إلى الكتابة الشعرية السوريالية. ومن هذا الباب كتبت نصوصا محاولا أن أضع الكلمات في أفق مختلف من معانيها. هذا الأمر أعطى سهولة كما قلتِ في تطويع اللغة. لكنه أدخلني في متاهة الغموض الناتجة عن النظر إلى اللغة الشعرية باعتبارها مهارة لغوية، وأيضا أدخلني في متاهة التفكير اللغوي والذاكرة الثقافية فقط.
لكن لاحقا استوعبت معنى أن تكون اللغة هي "بيت الوجود" كما قال هيدغر، وأن تكون اللغة هي السلطة التي نحقق من خلالها شرط وجودنا في الحياة، مهما كانت قوة هذه السلطة. لذلك حينما أكتب القصيدة يكون صراعي في استدعاء اللغة مرتبطا بهذا الفهم العميق للغة. يضاف إلى ذلك حين تستدعي اللغة إلى النص، فأنت تستدعي بالدرجة الأولى أسلوبك في التعامل مع الأشياء من حولك ومن ضمنها اللغة، ألم يقل رولان بارت "الأسلوب هو حياتك؟".
وجع القصيدة
-
قلت في أحد الحوارات إن "الشعر وجع ذاتي" فكيف يكون وجعا وهو الذي يحرر المشاعر المؤلمة من مكامنها ويقودها إلى انتصار يتجلى بالقصيدة، فهل الشعر هو الوجع أم أن الوجع هو الدافع للكتابة الشعرية؟
كلاهما يعزز هذا الوجع، مع اختلاف في الدرجة. وهذا يعتمد أساسا على فهمنا وتأويلنا لكلمة "الوجع" ودائما ما تكون في فهمنا قريبة من سلالة عائلة الكلمات التي تعني الألم المعنوي.
صحيح أن الشعر في أحد وظائفه يحرّرنا من المكبوت النفسي والأحاسيس المتجذرة في الروح. لكنه من جانب آخر يعمّق الهشاشة في روح الشاعر، خصوصا إذا كان الشاعر هشا وضعيفا في بنيته النفسية والجسدية وهشا في بنائه العائلي، مما يؤدّي به إلى الشقاء والانتحار، وهناك شواهد عديدة من شعراء كبار عاشوا هذه الهشاشة وأدت بهم في نهاية المطاف الى الانتحار.
أيضا هناك نوع من الوجع يرتبط بولادة القصيدة مثلما ترتبط الأم بولادة طفلها. ألم ووجع حسيان يقابلهما ألم ووجع مجازيان في ولادة القصيدة. لكن بالنهاية يتحول هذا الوجع عندهما إلى فرح وجودي.
-
هل تعتقد أن انتشار قصيدة النثر جعل النثر في أفضل حالاته؟
ليس بإطلاق، هناك أدباء وشعراء كتبوا النثر وطوره بأساليبهم المتعدّدة من جبران خليل جبران إلى أورخان ميسر إلى نزار قباني وحسين مردان، عدا أدباء عصر النهضة المصريين. لكنهم لم يدعوا أنهم يكتبون القصيدة من خلال النثر. لكن النثر كان مزدهرا بجانب التطور الذي شهدته القصيدة العمودية والتفعيلية، وإن كان التطور يتصل بالمضامين على مستوى القصيدة العمودية، والفضاء الإيقاعي والدلالي بالنسبة للقصيدة التفعيلية. بينما لو توقفنا عند الشعراء –ولا أريد هنا الدخول في التسميات ما يهمني هنا الفكرة - الذين نظّروا لقصيدة النثر، كان الأثر الذي تركوه من خلال تنظيراتهم، على من جاء بعدهم من الشعراء الذين ركبوا موجة الكتابة النثرية لم يخدم كثيرا تطور القصيدة، لأسباب من أهمها انشغال الشاعر بتطبيق ما تم التنظير له، وهو ما حدّ كثيرا من مغامرة الشاعر في الكتابة والانطلاق بها إلى فضاء أرحب، رغم أن التنظير قائم بالأساس على الحرية في الكتابة والتخلص من كل قيد يحدّها. من جهة أخرى ليس معنى ذلك أن هذا الكلام ينطبق على تاريخ القصيدة النثرية منذ بروزها في الأدب العربي المعاصر. لكنها ظاهرة ملفتة للنظر تخص هذا الأدب تحديدا عن سائر الأدب العالمي.