تزامنا مع حرب الإبادة الهمجية لتي تشنُّها إسرائيل على أبناء الشعب الفلسطيني من سكّان قطاع غزة، تستعر جبهة أخرى لا تقلّ شراسة عن القصف والتدمير هي حرب السرديّات بما تنطوي عليه من مواجهات ثقافية ومعرفية وأخلاقية في ميادين السياسة والإعلام تُوظَّف فيها أسلحة التضليل وتحريف الواقع ويُستعان فيها بالخوارزميات والذكاء الاصطناعي في ما يجوز وصفه بسياسة الاستعمار الرقمي التي تقوم على التلاعب بعواطف البشر وتوجيه مواقفهم إزاء ما يدور حولهم في عالم تتراجع فيه القيم على نحو يدفع إلى إعادة التفكير في جملة من المفاهيم التي كنا نعتقد أنها باتت من المسلّمات.
وسط هذا المشهد الكئيب لعالم لم يعد صنّاع القرار فيه يأبهون كثيرا بمواقف ناخبيهم ممّا يجرى خارج حدود بلدانهم، وباتوا يمارسون فيه سياسات كمّ الأفواه وتقييد الحريّات والتغاضي عن خطاب كراهية وإبادة صريح بذرائعية مبتذلة، وسط هذا كله، يبدو بديهيا استحضار سيرة وإرث المفكر والناقد الفلسطيني الأميركي الراحل والذائع الصيت إدوارد سعيد، الذي كان ولا يزال، حتى بعد رحيله، واحدا من أبرز الأصوات التي حفظت لقضية الشعب الفلسطيني مكانتها المستحقة على خريطة النقاش الثقافي والفكري العالمي بما راكمه من إرث معرفي ومن مقاربات إنسانية شجاعة وعميقة لواحدةٍ من أعدل قضايا الزمن المعاصر وأكثرها تعرُّضا للإجحاف.
حرب سرديّات
لولا أن الموت خطف سعيد باكرا، لكان اليوم يُطفئ شمعة ميلاده الثامنة والثمانين في لحظة من أشدّ لحظات القضية الفلسطينية مرارة وبؤسا وانكشافا على انفلاتٍ محموم لقوّة إسرائيل العارية المدفوعة بتواطؤ مراكز صنع القرار السياسي الغربيّ مع حملة جديدة من حملات إبادة للفلسطينيين ماديا ورمزيا، وما يواكبها من مساعٍ لطمس سياقٍ تاريخيّ وإنساني يراد له أن يصبح كأنّه من روايات الأساطير بهدف فرضِ سرديّة تختزل فلسطين وشعبها بفاعل سياسيّ أو عسكريّ.