لقد أدرك إدوارد سعيد حساسيةَ المواجهة الثقافية والنضال الحركيّ اللذين رآهما مكوّنَين أساسِيَّين في حرب هي حربُ سرديّات هدفها الهيمنة على الخطاب العام والتحكّم فيه، إذ لا يكتفي الاحتلال، بوصفه امتدادا للإرادة الكولونيالية، بالاستيلاء على الحيِّز الجغرافي لضحاياه، بل لا بدّ من تطهير الرواية منهم، ما يستدعي إعادة كتابة قسريةٍ للتاريخ، مثلما للحاضر والمستقبل. من هنا، آمن سعيد بلزوم خوضِ المواجهة الثقافية انطلاقا من وجوب "استحواذ النضال الفلسطيني على اهتمام العالم وأفكاره"، متسائلا عن سبب عدم بروز النضال الفلسطيني "كصراع أخلاقي عظيم أسوة بنضال جنوب أفريقيا، وفقا لوصف مانديلّا"، وكثيرا ما أكّد كتابة ومُشافهة أنّ مجرّد الحديث عن السلام لا يكفي، بل يتعيّن على النضال الفلسطيني تقديم "الأسس المادية له، الناتجة من رؤية أخلاقية بعيدة حتى عن البراغماتية أو الذرائعية، إذ "يجب أن لا نستحوذ على خيال شعبنا فحسب، بل ينبغي أن نستحوذ على خيال مضطهِدينا أيضا، وأن نتمسّك بالقيم الإنسانية الديموقراطية سبيلا إلى التأثير في السرديّة السائدة للصراع ولتعبئة الرأي العام العالمي والتعاون مع ناشطي السلام في إسرائيل والعالم".
اشتباك مع النخب
انطلاقا من اشتباكه المعرفي والمعيشي مع المجتمع الثقافي الغربي ممثَّلا بدوائر النخبة الأميركية، حيث شكَّل المثقفون اليهود نسبة راجحة في صداقاته وعلاقاته المهنية والإنسانية، كان سعيد متنبّها إلى أهمية عدم السماح للارتجال والعنف بتشويه النضال الفلسطيني من قِبَل الدعاية الإسرائيلية التي تساندها شبكات من مراكز الفكر والإعلام في أميركا وسائر العالم الغربي الذي ما فتِئ يتطهّر من عقدة ذنبه إزاء ما فعله في حق مواطنيه اليهود بالتسبّب في كارثةٍ لشعبٍ آخر لا تقلّ فظاعة عن سابقتها.
استنادا إلى ما راكمه من فهمٍ عميقٍ لديناميات الوعي السياسي والفكري الغربي، وهو الفينومينولوجي الذي قضى ردحا من حياته منكبّا على دراسة بنى السلوك والإدراك والتنظير فيها، خاض إدوارد سعيد معركته الثقافية الضروس بثقة واستبسال نادِرَين، ونجح إلى درجةٍ كبيرة في تحدّي ترسانة فكرية وإعلامية مهولة قوامها مراكز بحث ومؤسسات ودول، وصفها بكونها واحدة من "أكبر وأرهب الآلات الدعائية في العالم"، بينما كان هو فردا أعزل إلا من وعيٍ متّقِد ولغةٍ ثاقبة وإيمان راسخ بعدالة قضيته وطابعها الإنساني قبل كلّ شيء.
وقد نجح إدوارد بحسب ما يشير إليه تمُثي برنَن، مؤلّف كتاب السيرة الذاتية لسعيد، الذي صدرت ترجمته العربية بعنوان "أماكن الفكر"، في دفع كثيرين من مؤيّدي إسرائيل إلى مراجعة مواقفهم وآرائهم، حتى أنّ ماري كاي ويلمرز، الشريكة المؤسِّسة ورئيسة تحرير مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" في ذلك الوقت، المعروفة بتأييدها الأعمى لإسرائيل كتبت تقول في إحدى مقالاتها إنّ "لدى الفلسطينيين قضية ذات حجّة مُفحِمة".
اليهوديّ الأخير
يشير المؤرّخ المتخصص في التاريخَين اليهودي والإيرلندي إيدان بيتّي إلى أنّ سعيد وبشهادة الصحافي الاستقصائي اليهودي الأميركي إيزيدور فينشتاين ستون استطاع أن يجعل من قضية شعبه المضطهد والمطرود قضية لا تقل حساسية عن قضية يهود أوروبا. حتى أنّ سعيد في سنواته الأخيرة، "التي اتسمت بالكثير من الشجاعة في التعبير"، بحسب ما يلفت إليه بيتّي، بدأ يطلق على نفسه اسم "المثقف اليهودي الأخير"، ورأى أن أنصار إسرائيل ليس لديهم أي فكرة عمّا "يعنيه أن يكون المرء مثقفا يهوديا ملتزما اليهودية الدنيوية والعدالة العالمية"، مشيرا إلى أن جيمس بالدوين ومالكولم إكس كانا رفيقَي روحه.
في مقالة بعنوان "إدوارد سعيد المحاصر بالأعداء" نُشِرت في موقع مجلة "تيارات يهودية"، يشير نوبار هوفسيبيان، وهو أستاذ مشارك في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة تشابمان بكاليفورنيا، وناشرٌ وصديقٌ شخصي لسعيد إلى أنّ الأخير كتب في رسالة غير منشورة تحمل عنوان "رسالة مفتوحة إلى المثقفين الأميركيين اليهود" يقول "يتعيّن علينا إمّا أن نناضل من أجل العدالة والحقيقة والحق في النقد المُخلص، أو أن نتخلى ببساطة عن لقب المثقّف".