مسرحية "الصوان"... تعاقب الموت والحياة والحلم الأزلي بالسلامhttps://www.majalla.com/node/304731/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%82%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B2%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85
ندلف إلى مسرح "روابط للفنون" في القاهرة، بعد طول انتظام أمام بوابة القاعة، نتلفت بحثا عن مقعد يُناسب كل منّا للإطلال على الخشبة – وهي ليست خشبة بالمعنى المعروف بل يُمكن أن نطلق عليها أكثر عَتَبة - ومتابعة المنظر المسرحي الذي يرسم مستطيلا، ويتشكل عبر مقاعد خشبية منصوبة في صفوف متوازية، بعضها يطل علينا، وبعضها الآخر يولينا ظهره. على مقعد من النوع الأخير، كان مجدي يجلس ساكنا - حتى من قبل وصولنا – في قلب الصوان شبه المظلم، ونحن أيضا كمتفرجين سنصير جزءا من هذا الصوان بعد قليل. أحيانا يأتي مجدي بحركات ضرورية، كإجراء تبديل طفيف في وضع جلسته. يبدو أنهينتظرنا حتى نستقر على مقاعدنا، كي يتوقف عن أن يكون قسما من الديكور، لتنبعث فيه الحياة.
انتظاره هذا، سيتجلى لاحقا كنوع من انتظار الإنسان للأبدية، الذي يترادف بطبيعة الحال، مع انتظاره للموت والفناء، وكأنها الأبدية الوحيدة التي في وسع الإنسان أن يُحققها.
هذه مسرحية "الصوان"، عُرضت ضمن فعاليات "مهرجان دي كاف للفنون المعاصرة" في دورته الحادية عشرة التي أقيمت في وسط القاهرة بين 12 أكتوبر/تشرين الأول و5 نوفمبر/تشرين الثاني. من كتابة وإخراج المسرحي الفرنسي باسكال رامبرت، وترجمة النص للممثلة والناقدة والمخرجة منحة البطراوي، وهو من تمثيل مجدي عطوان ونهى الخولي وناندا محمد ومحمد حاتم ورأفت البيومي وسارة عبد الرحمن وأحمد مالك وليلى غنيم ومروان الجبلاوي ويحيى حسين.
نتخيّل أن أجنبية المسرحي هي التي جعلته ينتبه إلى الصوان كمكان ورمز حين لمحه مثلا أول مرة في إحدى زياراته للقاهرة
وكان "مهرجان دي كاف" قرر هذا العام مواصلة تقديم عروضه، بدلا من إلغاء البرنامج أو إرجائه، كما حدث على سبيل المثل مع مهرجاني الجونة والقاهرة السينمائيين. بعض العروض استُبقت بوقفات حداد على أرواح الضحايا في فلسطين، وبعضها الآخر تماسّ بطبيعة الحال مع الأجواء الحزينة والحضور الدائم لشبح الموت في حياتنا منذ بدأت حرب غزة، وذلك ينطبق على "الصوان". تدور المسرحية حول ثيمة تعاقب الموت والحياة، وتتفاعل شخصياتها مع إشكاليات الساعة مثل العنف نتيجة مباشرة للعجز عن التحاور، وكذلك الهجرة سواء هربا من الحروب وما تُخلِّفه من خراب، أو بحثا عن مستقبل أفضل في الحالات الأقل درامية. وهذا ما رشح "الصوان" لأن تكون محطة استراحة وتأمل في الآن نفسه لأسئلتنا المرتبكة على الصعيد العالمي والعائلي وأيضا الفردي.
قبل الكلام عن "الصوان"، من الأمانة الإشارة إلى حالة الارتباك العام التي وسمت هذه الدورة من "دي كاف"، بالأخص في ما يتعلق بالتنظيم، إذ ألغيت بعض العروض وتغيّر الجدول في اللحظات الأخيرة ومن دون إبداء أسباب، كإلغاء فعالية قراءة الكاتبة فاطمة قنديل لنصوص من روايتها الحاصلة على جائزة نجيب محفوظ العام الماضي، "أقفاص فارغة: ما لم تكتبه فاطمة قنديل". إضافة إلى الارتفاع النسبي لأسعار التذاكر والاعتماد على نظام "تيكتس مارش" في الحجز عبر الإنترنت الذي يضع بدوره مصاريف إضافية بحجج غريبة، على الرغم من أن العروض معظمها، حصلت بشكل أو بآخر على دعم من مؤسسات مصرية أو أجنبية. مما أدى إلى حصر تعاطي المهرجان مع جمهور نخبوي نسبيا، وربما فئة قليلة للغاية من هذا الجمهور، مع أن العروض كانت تستحق الوصول إلى فئات أوسع. وسط هذه التفاصيل المزعجة، وقد يُبرَّر بعضها بتأثيرات الظروف الحالية، يظل التعاون الودود للشبان من فريق عمل المهرجان مع الجمهور، نقطة مضيئة في هذه الدورة، ذلك عدا عن تميّز العروض نفسها.
حيز افتراضي
السؤال الذي قد يُثور في الذهن تلقائيا بمجرد الاطلاع على فريق العمل في الكُتيب، هو ما السرّ في أن يتخذ فنان فرنسي الصوان مكانا ورمزا على الرغم من غيابه في طبيعة الحال عن الفضاء الفرنسي على الصعيد الاجتماعي وحتى التخييلي؟ ثم ما الجديد الذي يُمكن أن يخلقه هذا التفاعل بين مسرحي فرنسي وممثلين مصريين؟
الصوان إذا صممنا على تعريفه، هو فضاء اجتماعي في الثقافة المصرية، يُحتفى فيه بالمسرّات والأحزان – والاحتفاء المقصود هنا هو المشاركة في أداء الطقوس المعبرة - المسرّات من نوع حفلات الزفاف الشعبية، وفي رمضان موائد الإفطار الجماعية، والأحزان المتعلقة بالوفاة، كما يُستخدم بكثافة في الفعاليات السياسية. وهو فضاء افتراضي لأنه ليس موجودا بذاته، وإنما يُنصب للمناسبة ثم يُزال من بعدها ليُنصب في غير زمان ومكان. الصوان، في أحد مستويات التأمل، شكل من أشكال المسرح، غير الهادف للفن، على الرغم من أنه يُنتِجه على كل حال (لنتفكر في هيئة المعزّين المصطفّين في حزن، أو المدعوين المصطفّين في سرور)، لذا هو قادر على ضمّ الجماعة في سعيها للاستمرار عبر الزواج وتشكيل العائلة، كما هو شاهد في الآن نفسه على المحدودية الإنسانية لهذا السعي، متلخصة في الفناء التام بالطبع.
نتخيّل أن أجنبية المسرحي هي التي جعلته ينتبه إلى الصوان كمكان ورمز حين لمحه مثلا للمرة الاولى في إحدى زياراته للقاهرة، بينما قد نتفاعل نحن، أهل الثقافة، مع الوظائف التي يلعبها مباشرة، من دون أن ننتبه له هو كحاضن لهذه الوظائف. من المرجح أيضا، أن عدم وجود مقابل للصوان بالمعنى نفسه، على حد علمي، في الثقافة الفرنسية، قد ألهم الفنان لاستثماره فنيا بما أنه مناسب – وقد يكون الوحيد المناسب – لتجسيد قوة الحياة والموت معا. إلى هذا، هو مؤهل فنيا لحمل المعنى الذي كان يريد رامبرت أن يُعبّر عنه من خلال تتبع حياة هذه العائلة.
وسط العاصفة
يبدأ الصوان حين تُضاء الأنوار على المسرح ويلتفت مجدي إلينا أخيرا، في يده خطاب يقرأ منه حوارا متخيّلا مع والده الراحل، إذ لم يكن يتجرأ على محاورته في حياته، والصوان الآن منصوب لعزائه. يجثم عليه أولا شعور بالذنب: "إزاي الواحد يكون ابن صالح بعد الستين؟"، ثم العتاب: "كنت دايما بتقول إن الحياة هي أنك تبص على الخط الأزرق قدام كورنيش إسكندرية، لكن ده مش كفاية"، ليعود إلى ما يشبه الاستغفار: "أنا عمري ما بطلت أكون ابنك".
هذا الموقف الحائر للابن إزاء ما يُفترض أن يكون لحظة وداع والده، يفتتح حالة الرثاء في مسرحية تنهض بشكل ما على هذا الغرض، ليس فقط لرجل غائب حاضر في هذا الصوان، إذ لم يؤدّ شخصه أي ممثل، لكنه على ما يبدو أيضا رثاء لنوع من المثقف الشبه مثالي والمتجرد، الذي ربّى ابنه مجدي على حب خالص للوطن، حب جرّ من المتاعب والآلام ما لم يُطقه الابن، ومثله الأحفاد الذين هاجروا إلى الخارج بحثا ربما عن إمكانات مختلفة للحياة.
من خلال حوار مجدي مع زوجته نهى - تُسمى الشخصيات بأسماء الممثلين الحقيقيين الذين يؤدونوها – نتلمّس شيئا من التمزّق الحاصل في العائلة. وحين يصل الابن أحمد – يؤدّي دوره النجم أحمد مالك – بملامح غاضبة وجسد مستعد للعراك، نهتم أكثر بطبيعة هذا الصراع غير المعلن. أحمد مصارع، يلعب لصالح الأندية الأوروبية في الخارج، يعود موقتا من مهجره من أجل هذا العزاء. تطلب نهى من مجدي ألا يتصادم مع الابن، فنفهم من ذلك أن خلف الرجلين تاريخا من الصدام. لكن اللحظة العاطفية في النهاية تفرض نفسها، فيضطر إلى الحديث، فينخرط في مواجهة قد لا يبدو هذا أوانها: "أنا سفري برة يا بابا مش عشان أهرب منك". وحين لا يتفاعل مجدي يصرخ أحمد: "بابا أنت كنت بتتكلم مع أبوك قبل ما يموت؟". ويذيّل سؤاله باستنتاج غاضب: "هي ليه الآباء دايما بترفض تتحمل المسؤولية؟".
وإذا بالحوار هو الفضيلة الغائبة في هذه العائلة التي يصفها مجدي قائلا: "إحنا عيلة مش سهلة، فرع بيطرح رجالة صعبة"، لكن هل يقتصر غياب هذه الفضيلة على عائلة مجدي؟ نرى تجسيدا آخر لغياب الحوار بوصول حاتم – يلعب دوره أحمد حاتم – الأخ الأكبر المصارع هو الآخر، والمغترب في أوروبا كذلك، لكن في غير بلد، مع رفيقته السورية ناندة – تلعبها ناندة محمد – إذ يشتبك الأخوان بالأيدي، كأنها طريقتهما الوحيدة في التفاعل، وربما العناق.
تأتي "الصوان" متشبعة بروح الثقافة الفرنسية وميلها إلى النقد والتفلسف، لكنها تمسّ شيئا جوهريا في الروح المصرية
قابيل وهابيل
صحيح أن معزّين قريبين من العائلة يتدخلون لفض العراك بين الأخوين – الذي بدا لوهلة حقيقيا خارج المسرح – إلا أننا نشعر أن شيئا فادحا قد حدث في هذه العائلة، وأنتج كل هذا العنف المهدد بالتصاعد. مع هذا، يرينا الصوان أن العائلة ليست شرا كلها، فهناك ذلك الإلهام الذي مارسته هذه العائلة على مَنْ اقترب منها، مثل رأفت وليلى القادمين لحضور العزاء من الإسكندرية، رأفت يعمل في مسرح للأطفال المعرضين للخطر، وذلك بتأثير من مجدي الذي عمل من قبل مع أولاد الشوارع، وليلى التي ربما تحاول الغناء. هناك أيضا الشاب يحيى الذي يكتب في الصحف، محاولا أن يصنع لنفسه مساحة آمنة للتعبير، وكذلك مروان الذي يبحث عن دور إصلاحي في المجتمع المدني. وسط هذه الأجواء تُصدِّر ناندة محمد طاقة بهجة وخفّة بمجرد دخولها إلى المسرح، وهي الآتية من قصة حزينة بفقدانها كل شيء في سوريا، لم يبق لها من هناك سوى لهجتها كما تقول. ومن غير قصد، تنفث ناندة نار الغيرة بين أحمد وحاتم، إذ يتبين أن الأخوين قد وقعا سابقا في حبها، وهي جولة من الصراع حُسمت لصالح حاتم.
ربما نظن أن صراع الأخوين، الذي يحيل عبر عشق المحبوبة نفسها مباشرة على صراع قابيل وهابيل، هو العمود الفقري للمسرحية، سوى أن "الصوان" تجعلنا ننقلب على هذا الظن على الرغم من خشيتنا من عواقب هذا التشابه. فهناك صراع سارة شقيقة أحمد وحاتم لإثبات وجودها، هي التي هُمّشت لصالح الأخوين المصارعين، وتعبّر شخصيتها عن أزمة جيل كامل يعاني من عدمية مزمنة: "معنديش أي شغف، كأن فيه حفرة جوايا"، فضلا عن الصراعات الأخرى الثانوية، كصراع نهى الزوجة والأم مع أنماط شخصيات ذويها من الذكور، و"الصوان" تركز بصورة أكبر على رجال العائلة لا سيما الشخصيات الأبوية منها – احتراما للتراتبية الاجتماعية شبه المقدّسة للطبقة الوسطى التي يعدّ بعض عائلاتها الرجل عماد العائلة.
يجوز أن طموح باسكال رامبرت من وراء هذا النصّ، كان أن يقبض على الحياة بأكملها، وليس فقط مصير هذه العائلة. في لحظة معينة نشاهد المقعد الذي كان ينبغي أن يجلس عليه مقرئ العزاء، يتحوّل إلى دكة يجلس عليها العروسان ناندة وحاتم. وتنسحب الشخصيات دخولا مجددا إلى المسرح، هذه المرة بروح أكثر إشراقا وأملا في المستقبل. ويكون حفل الزفاف نفسه فرصة لمحاولة إدخال الحوار إلى قاموس العائلة، يقول حاتم: "أنا عارف أننا مش متعودين نتكلم في المناسبات، أيوة مش زي الخواجات". ويحاول أن يفتح قلبه متوجها مباشرة إلى والده من دون وساطة الرسائل: "اللي حصل من كام سنة، ساب عندي شوية فخر، وأحيانا شوية مرارة"، وتتكرر طوال المسرحية الإشارة إلى هذا "اللي حصل" ويسكت النصّ في الوقت عنه عن تبيينه، مكتفيا بالإشارة إلى ما يشبه الحدث السياسي الكبير، الذي انتهى إلى غير المأمول إليه. في هذا الجزء أيضا يُثير رامبرت الإعجاب بقدرته على استنطاق معاناة الرياضيين المصريين أو الآتين من بلاد تعاني تراجعا في مستويات الحياة، في منافستهم مع الرياضيين الأوروبيين على سبيل المثل، يقول حاتم: "أنت عندك القوة والغضب، هو عنده الصناعة والإمكانات".
لا بداية ولا نهاية
وبعد أن تلقي كل شخصية من المسرحية حوارها – لغة المسرح المفضلة – وبعد أن يدور الجميع في وصلة رقص جماعي احتفالا بالعروسين، ونشاهد مباراة في التحطيب لكن ودية هذه المرة، يسقط مجدي وينقلب مجددا الفرح إلى مأتم. يغمرنا الشعور بأننا إزاء نوع من الدورة الزمنية الجهنمية التي لا تنتهي سوى لتبدأ.
في الثلث الأخير من المسرحية، يعبّر النصّ عن التوق إلى التحرّر من هذه الدائرة، عبر صوت نهى: "مجدي كان دايما بيقول إن مستحيل تكون الحياة اللي عايشنها دي هي الحياة الحقيقية". ويحاول الأخوان أن يتوصلا إلى أسباب النزاع الأزلي بينهما، وأن يمد أحدهما يده في اتجاه الآخر، وذلك ربما بدافع من هيبة هذا الصوان نفسه، يقول الأول: "عندي إحساس إننا عايشين في صوان كبير"، ليُجيبه الثاني: "الصوان ده مكان الحقيقة". وقد يُقال إن هذا النزوع في "الصوان" طوباوي، تردّد نهى علينا قرب النهاية: "يمكن نختار التفاؤل بدل التشاؤم، ويمكن العالم ينصلح حاله شوية"، لكن هل من حل آخر سوى الكفاح من أجل ذلك الحلم؟
تأتي "الصوان" متشبعة بروح الثقافة الفرنسية وميلها إلى النقد والتفلسف، لكنها تمسّ شيئا جوهريا في الروح المصرية مع ذلك، وفي روح المجتمعات الحديثة عموما وأزمات التواصل بين أجيالها. يختزل الصوان الأمكنة والأزمنة، ويميل إلى سجن شخصياته، وإلى تحديهم حتى، لكننا نعرف في الأخير أنه يتجاوز نفسه ويروي حكاية ربما عن قصة الإنسان مع الأبدية.