منذ تجربة أميركا الفاشلة في العراق في تفكيك الجيش ومؤسسات الأمن عام 2003، باتت واشنطن ومؤسساتها مغرمتين بـالعصف الفكري والاستعداد لـ"اليوم التالي". الاستعداد مسبقا لما سيكون عليه الوضع بعد "اليوم الأول"، أي انتهاء العمليات العسكرية. الهزيمة غير واردة في الحسبان، ولا بد من الاستعداد للانتصار.
وها هي إدارة الرئيس جو بايدن تدفع حلفاءها العرب والأوروبيين للتفكير في "اليوم التالي" في قطاع غزة. لكن غالبا ما يصطدم المسؤولون الأميركيون برفض محاوريهم العرب الدخول في هذا المسار وملاعبة هذا العرض.
في اللقاء الأخير بين وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ونطرائه العرب في عمان، كانت الفجوة كبيرة والأولويات متنافرة. هو مهتم بـ"اليوم التالي" لغزة بعد الحرب، وهم مهتمون بـ"وقف فوري" للحرب. وتكرر هذا في حوار المنامة قبل يومين، إذ حصل صدام دبلوماسي على منصات الحوار، بين بريت ماكغورك، مبعوث الرئيس الأميركي للشرق الأوسط، ومسؤولين عرب إزاء النقطة والأولويات وعناصر القلق نفسها.
طرح ماكغورك، ما سماها "مبادئ طوكيو " الخمسة. لم يكن يقصد الشروط التي فرضت علـى اليابان بعد هزيمتها بالسلاح النووي في الحرب العالمية الثانية، بل كان يشير إلى "لاءات بلينكن" بعد اجتماع وزراء خارجية الدول السبع في العاصمة اليابانية، وهي تشمل: "لا للتهجير القسري للفلسطينيين من غزة، لا لإعادة احتلال غزة، لا تقليص لمساحة/ أراضي غزة؛ فهي أرض فلسطينية وستبقى فلسطينية، لا تهديد لأمن إسرائيل من غزة، لا لحصار غزة؛ فالمدنيون يجب عزلهم عن "حماس" وهم غير مسؤولين عن جرائمها".
أعقبها بخمس قواعد للعمل المستقبلي. هي: صوت وتطلعات الشعب الفلسطيني مركز الحوكمة في غزة. الضفة والقطاع يجب أن يعودا تحت حكم السلطة الفلسطينية مجددا. إسرائيل يجب أن تكون آمنة، لا يسمح بتهديد أمنها من الضفة والقطاع. توفير الدعم والمصادر لمرحلة ما بعد الأزمة والمرحلة الانتقالية لتدشين أسس طريق حل الدولتين. آلية لإعادة الإعمار وتوفير حاجات غزة في المدى الطويل.
المسؤولون العرب، أعلنوا رفضهم الدخول في مناقشة خطط مستقبلية عن الإعمار ونشر مراقبين وقوات عربية في غزة، حيث لا يعرف أحد كيف ومتى ستنتهي الحرب
المسؤولون العرب، أعلنوا رفضهم الدخول في مناقشة خطط مستقبلية عن الإعمار ونشر مراقبين وقوات عربية في غزة، حيث لا يعرف أحد كيف ومتى ستنتهي الحرب. إنهم معنيون أكثر بوقف شلال الدم والنزوح بالدعوة إلى وقف فوري للعمليات العسكرية والقصف ومنع التهجير الذي يهدد الفلسطينيين والأمن القومي لمصر والأردن، وتقديم المساعدات الإنسانية. وطالبوا بإطلاق عملية سياسة جدية تفضى إلى حل الدولتين، وتقديم خيار للشعب الفلسطيني بدلا من "حماس"، لأن الحركة فكرة وليدة الاحتلال، كما قال وزير خارجية الأردن أيمن الصفدي.
مسؤول عربي، اشترط وجود برنامج زمني وخطوات عملية لتنفيذ مشروع حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية، كي تصل المنطقة إلى مرحلة لا يتجدد فيها العنف بين فينة وأخرى
اللافت، كان الانتقاد الضمني من مفوض الشؤون الخارجية والأمنية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل لـبعض "مبادئ ماكغورك"، بينها "رفض التهجير القسري" على اعتبار أن هذا يحصل وسيحصل بسبب "القصف والمجاعة". أما "رفض فصل غزة"، فإن بوريل يرى أن "الضفة والقطاع والقدس الشرقية وحدة متكاملة لا يجوز الفصل بينها".
وقد وافق بوريل على أن "حماس" يجب أن لا تحكم "غزة مستقبلا"، لكنه لم يشترط "إصلاح" السلطة كي تكون مسؤولة عن القطاع، بل هو يرى أنها جاهزة الآن للقيام بذلك. كما طالب بانخراط عربي في إعمار غزة وإعمار مؤسسات الدولة الفلسطينية، وبدء مفاوضات جدية للوصول إلى هذا الهدف.
قصارى القلق، أن لا يكون الكلام عن السلام وحل الدولتين، غطاء لتغيير الوقائع وفرض وقائع جديدة على الأرض، كما حصل في العقود الثلاثة الماضية. مسؤول عربي، اشترط وجود برنامج زمني وخطوات عملية لتنفيذ مشروع حل الدولتين وقيام الدولة الفلسطينية، كي تصل المنطقة إلى مرحلة لا يتجدد فيها العنف بين فينة وأخرى.
خلال السنوات الماضية، شجع الأميركيون حلفاءهم في العالم، على التفكير فيما بعد الانتصار الكامل في حروب وتدخلات وأزمات عدة، ودعموا مؤسسات مختصة بـ"اليوم التالي" في سوريا وليبيا وأفغانستان وغيرها.
نقطة البداية، في واقع الحال، لتفكير جدي في "اليوم التالي"، أن تكون إدارة بايدن قادرة على إقناع حلفائها العرب والأوروبيين بخطوات منسقة إزاء ما يحصل في "اليوم الحالي"، للوصول معا وبالمنطقة إلى فرص أفضل لنجاح خطط "اليوم التالي" الجديدة بعد فشل ونكسات في سوريا وليبيا والعراق وأفغانستان.